BACK       عودة


سينما أسيرة الحزن
ومخرجون يحلمون بالفرح


باسل الخطيب

مهرجان ( فجر) مهرجان سينمائي دولي يقام في طهران كل عام وتعرض خلاله أحدث الأفلام الإيرانية، بالإضافة إلى تنظيم تظاهرات سينمائية مختلفة تعكس اهتمام منظمي المهرجان والجمهور لإيجاد لغة تواصل متكافئة بين السينما الإيرانية والسينما العالمية . مهرجان هذا العام كان العاشر بدوره وقد تضمن الفعاليات التالية :

* مسابقة الأفلام الإيرانية وشارك فيها عدد كبير من الأفلام التي تم إنتاجها في العامين 1991-1992 (يتم إنتاج حوالي 75 فيلم روائي طويل سنوياً) ومن أهمها: (ناصر الدين شاه الممثل السينمائي) لمحسن مخملباف ،(المسافرون) لبهرام بيضائي ، (البيت الهادئ) لمهدي صباغ زادة ، (الحاجة) لعلمي رضا دافودنزاد ، (نرجس) لرخشان بني اعتماد .. وغيرها . * نظرة إلى السينما الإيرانية . عرضت خلالها أهم الأفلام التي انتجت في السنوات السابقة .
* تظاهرة مهرجان المهرجانات، وتضمنت أفلاماً كان من أهمها : (بعد كل شيء) للمجري كزدي كوفاكس، (بردل) للتركي عاطف يلماز ، (المطر الأسود) للياباني شوهي إيمامورا ، (النفق الأسود) للإيطالي فدريكو برنو، (الرقص مع الذئاب) للأميركي كيفن كوستز ، (سائق السيدة ديزي) للأميركي بروس برسفورد ،(هروب من سينما ليبرتي) للبولوني فوتيك مارشفتسكي، (أربعة أيام في الثلج والدماء) للياباني هيدو غوشا ، و(الندم) للجورجي تنغيز أبولادزة .
* تظاهرة العروض الخاصة، ومن الأفلام التي عرضت: (ليالي ابن آوى) لعبد اللطيف عبد الحميد ، (شجرة الفقر) لأرمانو أولي ، (الشاهد) لبيتر باسكو .. وغيرها ..
* السينما الفلسطينية وأبعاد المقاومة . تظاهرة عرض خلالها عدد كبير من الأفلام الفلسطينية .
* تظاهرة أفلام أكيرا كوراساوا ، كانت تحت عنوان : "الشرق والإيمان بالخلاص المطلق" وعرضت أهم أفلام المخرج : (جودو ساغا) ، (الكلب الضال) ، (العيش) ، (الساموراي السبعة) ، (أعيش في خوف) ، (عرش الدماء) ، (الأعماق المنخفضة)، (يوجيمبو) ، (سان جورو) ، (في الأعلى وفي الأسفل) ،(اللحية الحمراء) ، (ران) .
* تظاهرة أفلام انغمار برغمان تحت عنوان : "الغرب شكوك وارتباك" وتضمنت أفلامه:(الظمأ) ، (لحن صيفي) ، (الختم السابع) ، (الفريز البري) ، (الوجه) ، (كما في المرآة) ، (سوناتا الخريف) .
* المخرجون القدماء في السينما الفرنسية ، وعرضت أفلام من إخراج جان رينوار،جان دلانوي ، جاك بيكر ، جان كوكتو ، أندريه كايان ، وجان بيير ملفيل .
* تظاهرة التبادل بين الكلمة والصورة : الأدب في السينما السوفيتية ، وعرضت أفلام أهمها: (الأب سرغي) ، (طفولة غوركي) ، (جامعاتي) ، (الفجر هادئ هنا) ، (الصعود) ، (أبلوموف) ، (بوريس غودونوف) ، (الحمامة المتوحشة) ، (سوناتا كروتزر) ، (عاشق غريب) ، (الأم) ..
* نقاط مضيئة من أصفهان ، تظارهرة عرضت أفلاماً مختارة في مهرجان أصفهان الدولي لسينما الأطفال والشباب ، وهو مهرجان يقام قبل مهرجان فجر بأشهر قليلة .
* تظاهرة "رسل الضحك"، وقدمت أفلاماً من بطولة هادي لانغدوم ، فاتي أربيوكل ، نورمان ويسدوم، جيري لويس، لويس دي فونيس، البرتو سوردي، جاك تاتي، بوستر كيتون، شارلي تشابلن ، ولوريل وهاردي . أفلام كثيرة ومختلفة عرضت في طهران، المدينة التي تضم أكثر من ثمانين قاعة عرض سينمائي، وفي تلك الأمكنة حيث كانت تعرض الأفلام المشاركة ، كان الناس يقفون في طوابير طويلة، رجالاً ونساءً ، في طقس شتوي بارد لساعات طويلة ، يجمعهم هدف واحد ، وهو أن يتمكنوا في النهاية من الحصول على تذكرة ، وحضور فيلم ..
 

* * *


هذه انطباعات خاصة حول بعض الأفلام الإيرانية تحديداً، والتي شاهدنا قسماً منها خلال المهرجان إنها مراجعة ومحاولة للتأمل في سينما لا تزال مجهولة بالنسبة لنا، لكنها سينما حقيقية ، موجودة فعلاً ، تكتسب زخماً ، وتنمو بأصالة محاولة أن تخترق الحصار، وتفند الآراء المسبقة التي تنم عن عدم معرفة بما يحدث في واقع الأمر ، إنها سينما ذات إتجاهات متعددة ، يقف خلفها مخرجون مبدعون ومفكرون وحالمون ، تغطي وجوههم مسحات من حزن شرقي قديم .. والحزن ضروري أحياناً ، فهو يطهر القلوب ويسمو بها حتى تكون قادرة على قول الكلمة الحقيقة ، بلا مجاملات ، أو تزويقات ، فتصل إلى الناس عميقة دافئة .. وصادقة دائماً .

أمير نادري والسيمفونية العاشرة في مهرجان دمشق السينمائي السابع شاهدنا أحدث أفلام نادري ، وكان فيلم (ماء ، رياح ، جفاف) وقد بدا واضحاً أن هذا الفيلم لم يولد من الفراغ ، لكنه جاء نتيحة لمحاولة المخرج تطوير لغة سينمائية خاصة به ، مع التمسك بفكرة واحدة تعالج موضوع الطفل الوحيد المعزول في صراعه مع الحياة . إن الفيلم الذي أخرجه نادري قبل (ماء ، رياح ، جفاف) كان بعنوان (الراكض)، وقام بأداء الدور الرئيسي في كلا الفيلمبن ، الفتى نفسه ، مجيد نيروماند . يبدأ فيلم (الراكض) مع صيحات يائسة تنطلق على شاطئ البحر من حنجرة الصبي أميرو الذي لم يتجاوز العاشرة بعد ، وهو يحاول لفت انتباه الموجودين على السفينة الضخمة الراسية في عرض البحر، أو انتباه قائد طائرة صغيرة تهبط على مدرج مطار قريب من الميناء. إن السفينة والطائرة تمثلان بالنسبة لأميرو امكانية الإنتقال إلى عالم مختلف لم يره قط ، لكنه يحلم دائماً أن يتمكن من الوصول إليه ، هذه الصيحات المثقلة بالحلم الطفولي لا تلبث أن تضيع وسط ضجيج السفن والطائرة وقسوة الحياة نفسها . أميرو صبي وحيد ، يعيش على متن سفينة مهجورة ملتصقة بالشاطئ ، يكسب قوته اليومي من ممارسة أعمال مختلفة مرتبطة بحياة الميناء حيث ترسو البواخر الأجنبية الضخمة وتلقي قاذوراتها في مياه البحر وعلى الشاطئ ، حيث تمتلئ منطقة تجمع القاذورات بالاطفال والنسوة والشيوخ الذين يغوصون فيها بأيديهم وأرجلهم بحثاً عما قد يكون ذا قيمة ما ، فيبيعونه إلى التاجر وهكذا يعيشون ، لم يعد هذا العمل يستهوي أميرو ، فينضم إلى بعض الصبية لممارسة عمل جديد . يربط كل منهم صندوقاً خشبياً بدولاب مطاطي كبير ويتوغل في البحر ليجمع الزجاجات الفارغة الطافية على سطح الماء ، ويدور صراع بين الصبية في الماء ، كل واحد متلهف للحصول على زجاجة جديدة ، والزجاجة الجديدة تعني المزيد من القروش والمزيد من الطمأنينة إلى أنه لن يجوع في الأيام المقبلة . يعود أميرو إلى الشاطئ وهو يجر وراءه غنيمة ، لكن أحد الصبية يهجم عليه ويحاول انتزاع بعض الزجاجات منه ، وهنا يتولد شيء في أعماق أميرو ، احساس سوف يتراكم لديه خلال الفيلم ويقوى في النهاية . أميرو لا يستطيع الإذعان لفكرة أن يغتصب أحد حقه الذي تعب من أجله ، فيهجم عليه ، ويشتبك الصبيان في عراك ويقف الآخرون لصالح الصبي الآخر ، فأميرو جديد ودخيل على عملهم . في يوم آخر تهاجم سمكة قرش الشاطئ ، فيلوذ الصبية بالفرار ، تاركين غنائمهم في البحر ، ويهرعون إلى شاطئ النجاة . الحياة قاسية وهي بحاجة إلى بحث وجهد مستمرين كي يكون الإنسان قادراً على الاستمرار فيها ، يمارس أميرو عملاً جديداً ويبيع الماء والثلج على رصيف الميناء ، وذات يوم يشرب أحدهم كأس ماء ويفر على دراجته دون أن يدفع الثمن ، فيترك أميرو خزان الماء الصغير والزبائن الواقفين ويركض خلف ذلك الشخص ، يركض وراءه على أرصفة الميناء ولفترة طويلة بازلاً مجهوداً خارقاً إلى أن يقترب منه فيستجمع ما تبقى لديه من قوة ويدفعه ويوقع به عن دراجته، ثم يمد يده إليه مطالباً بثمن الماء . ينهض ذلك الشخص ودون أن يتفوه بحرف واحد يمد يده ويدفع النقود بعد أن أدرك أنه تورط مع صبي غير عادي . أميرو يركض في الفيلم كثيراً، يركض على الشاطىء مقابل السفن الراسية، يركض قرب مدرج المطار حيث تهبط الطائرة وتحلق من جديد، يركض على الأرصفة وراء من يحاول سرقته واغتصاب حقه،يركض مع أصدقائه في تحديات شاقة، يركض ويركض وتتكرر صيحاته بين الحين والآخر،إنه يريد أن يسافر ويعرف.. أميرو لا يستكين للإهانة، يزاول مهنة ماسح أحذية ويتهمه أحد البحارة الأجانب بسرقة ولاعته فيدافع أميرو عن نفسه لكنه يضرب ويهان، وفي الليلة نفسها يكون بانتظار البحار الذي عاد إلى سفينته ثملاً فيرميه بصندوق مسح الأحذية ويوقعه أرضاً. تستهوي أميرو فكرة تجميع صور الطائرات من المجلات الأجنبية الملونة ، وعندما يسأله البائع إذا كان يريد شراء مجلات باللغة الفارسية يجيبه أميرو بأنه لا يعرف القراءة والكتابة ، وفي المشهد التالي يعبر عن سخطه من ذلك ، فيسير قرب صخور الشاطئ ويمزق المجلات الأجنبية ويتسائل بصوت عالي لماذا هو كذلك ؟ وكأنه اكتشف الامر لأول مرة !

يلتحق بدروس خاصة في المدرسة القريبة ويبدأ بتعلم الأحرف. إن أجمل مشاهد الفيلم عندما يحاول أميرو حفظ الحروف عن ظهر قلب ، يقف في مواجهة البحر الصاخب ويصيح بأعلى صوته مردداً حروف اللغة . لكن الحياة لا يمكن أن تقتصر على هذا الجانب ، إنها تدفع الإنسان إلى صراع قد ينسى معه إنسانيته ، وهي تدفع أميرو كذلك، فينساق إلى هذا الصراع دون أن يفقد مشاعر الإيثار والمحبة .. في مشهد رائع نرى لوح ثلج أبيض موضوعاً على برميل عند الشاطئ وناراً متأججة في الخلف ، يتسابق أميرو ورفاقه للوصول إلى لوح الثلج ، يستمر ركضهم طويلاً ويكون أشبه بعبور صعب لا نهاية له ، عبور يسلبهم قواهم وينهكهم إلى حد السقوط بحيث أن وجوههم لم تعد وجوه أطفال ، ويكون أميرو أول من يصل إلى لوح الثلج الذي ذاب أكثر من نصفه بتأثير حرارة النار ، فيرفعه ويعانقه ويشرب منه ويمرره على وجهه وشعره مستسلماً لنشوة النصر ، ثم يلتفت فيجد أن أقرب أصدقاءه إليه قد سقط من شدة الإعياء ويمد يده إليه طالباً أن يعطيه لوح الثلج حتى يشرب منه ، يتردد أميرو ، وفي هذا التردد لا يوجد اختيار بين القبول والرفض ، لكنه يمثل لحظة إدراك عميق والإمساك بطرف الخيط المؤدي إلى الاخلاقية التي اختارها أميرو لحياته، وسرعان ما يشاطره الجميع فرصة النصر .. إنه مشهد يحمل بعداً مجازياً ملموساً . مع النهاية يكون أميرو قد بات مختلفاً ..يقف على مدرج المطار وترتفع مقابله طائرة ضخمة،يقف متحدياً ، يردد درس الحروف الذي تعلمه عن ظهر قلب ، يردده بصوت عالٍ يكاد يضيع معه ضجيج الطائرة الهائل .. في نهاية الفيلم تختفي صيحات الطفل التائه الحالم بالسفر ، لقد أصبح أميرو يعرف ماذا يريد من هذه الحياة ، يجب أن يكون منتمياً إلى ثقافته أولاً، وأن يزود نفسه بأخلاقية خيرة وأن يركض ويركض دائماً من أجل الوصول إلى الهدف ، وعندئذ يكون قد انتصر فعلاً . فيلم مصنوع بحرفية عالية ، صور شاعرية ، توظيف دقيق للجانب الصوتي ، وأداء رائع للمثل الصغير مجيد نيروماند ، صاحب الوجه الأسمر والعينين الحزينتين ذات النظرات المتسائلة دائماً والتي تبحث عن الفرح في عالم قاسٍ لا يرحم .
يعود مجيد نيروماند بعد أربعة أعوام في فيلم أمير نادري (ماء ، رياح ، جفاف) .
لقد كبر الفتى وازداد طوله قليلاً وبقيت عيناه تحتفظان بذلك التساؤل المدهش حول كل ما يجري حوله . في الفيلم الجديد تختلف البيئة التي يجد الصبي نفسه فيها ، لا وجود للبحر الصاخب والسماء الزرقاء، ثمة صحراء قاحلة لا نهاية لها، رياح محملة بالغبار، وموت في كل مكان، لكنه يجد نفسه من جديد في مواجهة ظروف قاسية. لقد عاد إلى مسقط رأسه في منطقة جنوبية أهلكها الجفاف فلا يجد أسرته حيث كانت في الماضي، فيبدأ رحلة البحث عنها ولا يصادف في طريقه سوى جماعات بشرية راحلة يائسة، طفل رضيع ملقي في الصحراء، أشخاص غرباء يسرفون في استخدام الماء، سمكة تتخبط في بقعة موحلة، يحاول انقاذها لكنها تموت، ورجل يدفن تحت الرمال وهو يبحث عن الماء، وقارب كبير لا أحد يعرف كيف وصل إلى هذا المكان من الصحراء ...

البحث عن الأسرة لا يعود شاغله الأساسي إذ يجد نفسه أمام خيارين ، إما أن يرحل مع الراحلين أو يحفر الأرض بحثاً عن الماء . يمسك المعول ويحفر في الرمال، يحفر طويلاً حتى يرهقه العمل، ويكتسي وجهه بملامح الإعياء والتطلع ذاتها التي اكتسى بها سابقاً عندما كان يركض في فيلم (الراكض) من أجل أن يكون أول الواصلين إلى لوح الثلج . عمليتان مختلفتان : الركض والحفر ، والهدف واحد في كلا الحالتين : الماء والحياة . يتفجر الماء من أعماق الصحراء ، يتدفق بقوة وصخب حتى يكاد يغمر الدنيا بأسرها ، لقد أثمر جهد هذا الفتى في النهاية، وإذا تساءلنا حول طبيعة هذا الحل النهائي للفيلم نجد أنفسنا نتقبله بكل ارتياح كنتيجة طبيعية لمجهود إنساني خارق في ظروف لا ترحم الضعفاء. ومع تفجرينبوع الماء تصدح أنشودة الفرح من سيمفونية بيتهوفن التاسعة ، تصدح عالياً تعلن انتصار الإنسان ومجيء الفرح أخيراً .. لغة سينمائية شاعرية وقاسية ، ومخرج يعرف تماماً ماذا يفعل . أمير نادري من مواليد عام 1946 ، بدأ عمله كمصور فوتغرافي ومساعد مخرج، ثم التحق بمعهد التصوير الثقافي للأطفال والشباب حيث أخرج عدداً من الأفلام القصيرة وفيلمه الروائي الطويل الأول (وداعاً يا صديقي)، ومن أفلامه الأخرى( تانغنا)، (الورطة)، (هارمونيكا)، (صنع في إيران) (البحث) ، (الراكض) ، (ماء ، ورياح ، جفاف) . وقد فاز (الراكض) عام 1985 بالجائزة الأولى في مهرجان القارات الثلاث في نانت ،وفاز (ماء ، رياح ، جفاف) بالجائزة نفسها عام 1989 .

بهرام بيضائي : المرآة والحياة
ولد بيضائي عام 1938 واكتسب خبرته الأولى من صنع أفلام 8 مم . كتب عدداً من المسرحيات وبعض الدراسات حول الدراما الشرقية ، وفي عام 1970 أخرج فيلماً قصيراً كان بمثابة تمهيد لفيلمه الطويل الأول (حمام مطر) . تابع بيضائي كتابة المسرحيات والسيناريوهات وقام بإخراج (الغريب والضباب) ، (الغراب) ، (ساجاتارا) ، (موت يازدغرد) ، (ربما في وقت آخر) ، (باشو ، الغريب الصغير) و (المسافرون) . إذا كان لدى نادري موضوع معين يتخلل أفلامه كما بدأ واضحاً ، فإن بيضائي يحاول الانتقال من فيلم لآخر مغيراً الفكرة والأسلوب في كل مرة. (ربما في وقت آخر) دراما اجتماعية مليئة بالشكوك التي تساور رجلاً حول إخلاص زوجته ، (باشو ، الغريب الصغير) قصة شاعرية تدور أحداثها في الريف الشمالي البعيد ، أما في (المسافرون) تتسع زاوية الرؤية لتتناول أسلوب الحياة نفسه .

باشو ، فتى شديد السمرة ، عربي الأصل ، كان يعيش في الجنوب إلى أن قتلت أسرته في الحرب فيهرب مختبئاً في شاحنة تنقله إلى الشمال، حيث يجد نفسه في عالم مختلف تماماً، حقول خضراء، أشجار مثمرة ، والماء في كل مكان . ثمة أمرأة اسمها ناي تعيش مع طفليها في بيت معزول عن القرية ، تؤدي الدورالممثلة الرائعة سوزان تسليمي، يخصص المخرج وقتاً طويلاً لوصف تدرج العلاقة التي تنشأ بين باشو وناي، علاقة حذرة في بدايتها ، خوف باشو من العالم الجديد الذي يختلف فيه طعم الخبز والأرز، وفضول ناي تجاه هذا المخلوق الشديد السمرة . وعندما تحاول أن تجد لغة للتفاهم معه ينفلت باشو في مونولوج طويل بالعربية حول موت أسرته والأهوال التي شاهدها .. تصمت ناي ، وفي صمتها حزن وفهم وقرار باحتضان هذا الصبي .

لدى رؤيتهم لباشو يصاب أهل القرية بالدهشة لسمرة لم يروها من قبل، يأتون لزيارة ناي، يشربون الشاي، وتحاول فتاة صغيرة أن تتلمس البشرة السمراء . تشعر ناي بوضع باشو المحرج والذي بات أشبه بتحفة غرائبية يتأملها الجميع بفضول واستنكار ، فتنهض وتعلن انتهاء الزيارة بشكل أقرب إلى الطرد .. وبالتدريج يكتشف باشو أرضاً جديدة لعلاقة روحية قريبة مع ناي التي تستمر في رعايته رغم استنكار أهل القرية ، وعندما يمرض ترعاه وتحرص عليه مثل أولادها ، وأما عندما تمرض هي، يجن جنون باشو ويفعل كل ما بوسعه لشفائها ،يرعى الطفلين الصغيرين، يحممهما في النهر، يطعمهما، يسقي ناي الدواء ويحمل إليها المرآة حتى تنظر إليها، وللمرآة قصة وأبعاد خاصة سوف تظهر لاحقاً في فيلم (المسافرون) وهي ترمز بشكل عام إلى الحياة، وموضوع المرآة يتكرر في العديد من الأفلام الأخرى، ودائماً يعني الشيء نفسه. يصبح باشو رجل البيت الصغير،يساعد في الأعمال، يحرس الدار والحظيرة من الخنازير البرية، ويتعلم من ناي كيف يخاطب الطيور الجارحة والدجاج والكلاب ، ثم يصنع فزاعة وينصبها في وسط الحقل . ثمة قلق ينتاب ناي ، فزوجها الذي يعمل بعيداَ سوف يعود ، وكانت قد كتبت إليه بواسطة عجوز القرية حول باشو ورغبتها في الإحتفاظ به ، وكان العجوز يقرأ لها رسائل زوجها ، كانت تخطف الرسالة منه وتتظاهر بأنها تعرف القراءة ، وترتجل كلاماً على لسان زوجها ، وكأنه يرغب فعلاً في بقاء باشو معهم . تقع الرسالة في يد باشو الذي كان قد تعلم الفارسية فيعرف الحقيقة ويهرب، ثم يعود وكأنه اكتشف أنه إذا كان هناك وجود لأم ثانية في حياته فلا شك أنها ناي التي لن يستطيع التخلي عنها بعد اليوم . يعود الأب فجأة ، بيد واحدة ، يلتقي بزوجته وطفليه ، ويأتي باشو ويندفع إليه ويتعانق الفتى والرجل ، عناق لا تجمعه عاطفة الأبوة بعد، بقدر ما تدفع إليه فكرة واحدة مشتركة : إن كلاً منهما بحاجة إلى الآخر في هذه الظروف ، ومع ذلك فإن باشو يبقى محتفظاً في عينيه بذلك البريق الحزين الذي لا يزال يشده إلى ذكريات الماضي ، الماضي الذي سوف يبقى ماثلاً أمام عينيه يوعز إليه بالا ينسى أبداً . بعد (باشو ، الغريب الصغير) يقدم بيضائي فيلم (المسافرون) ، الفيلم الذي أثار ردود فعل مختلفة لدى كل من شاهده ،فالبعض استقبله بإعجاب شديد والبعض الآخر رفضه تماماً .. قصة بسيطة تخلو من أية تعقيدات درامية . إمرأة تسكن في المقاطعات تسافر إلى طهران مع زوجها وطفليها لحضور زفاف شقيقتها الصغرى ، لكنهم يتعرضون لحادث سير ويقتلون وينقلب الزفاف إلى مأتم ، وضمن الظروف الجديدة لا أحد يعير انتباهاً لمصير العروسين الشابين . هذه قصة الفيلم باختصار ، وباعتقادي أن إبداع المخرج هنا تمثل في تناول موضوع عادي جداً وتقديمه في صورة جديدة وأبعاد مختلفة تتيح إمكانية قراءة عميقة لحالة مجتمع بأسره . يبدأ الفيلم مع لقطة غريبة لمرآة كبيرة ذات إطار قاتم ، ملقاة على العشب الأخضر وتعكس صورة السماء الغائمة ، لقطات متمهلة لبيت على الشاطئ وليدين تحملان المرآة ، ولقطات أخرى تنبض بالحركة والحياة للشقيقة الكبرى وزوجها وطفليها وهم يحملون الحقائب إلى السيارة ، ويثبتون على ظهرها المرآة التي وعدت بها الشقيقة الكبرى هدية للزفاف ، وقبل أن تنطلق السيارة تلتفت الشقيقة الكبرى وتخاطبنا من خلال الكاميرا مباشرة ، وتقول : "إننا ذاهبون لحضور زفاف شقيقتي في طهران ، لكننا لن نصل إلى هناك ولن نحضر الزفاف لأننا سنموت .. "

ومع بداية الطريق يتوجه إلينا كل من الشقيقة الكبرى وزوجها وسائق السيارة وفلاحة يلتقطونها على الطريق، يتوجهون إلينا مباشرة، ويقدم كل منهم معلومات سريعة عن اسمه وعمره ومهنته ، هذه القفزة ذات الطابع التسجيلي البحت ، كانت بمثابة مطب وقع فيه المتفرج أثناء عملية تلقي الفيلم الذي بدأ بشكل إيحائي وحذر كأنما ينذر بالكارثة الوشيكة الوقوع .. وتقع الكارثة ، حادث سير مروع على الطريق الجبلي، تصطدم سيارة الأسرة بشاحنة كبيرة فتنقلب ويموت جميع من فيها ، في حين يصاب سائق الشاحنة ومساعده بخدوش بسيطة . في فيلا العائلة بطهران تكون الاستعدادات لحفل الزفاف جارية على قدم وساق، يحاول المخرج خلق جو من الفرح والبهجة ولا يبدو موفقاً كثيراً في ذلك وكأن معظم الممثلين غير قادرين على التحرر حتى النهاية من أمر ما يكبح مشاعرهم . لقطات هذا الجزء من الفيلم مرسومة ومنفذة بعناية فائقة ، كل شيء يتحرك ، عالم الفرح يرتبط بالحركة والكلام والرقص والابتسامات ، ستائر بيضاء وزهور وأحلام العروس وسعادة لا توصف وهي تكتب عناوين الوجبة الثانية من الدعوات قبل أن يأتي ساعي البريد لتوزيعها والجميع بانتظار حضور الشقيقة الكبرى وأسرتها . يصل نبأ الموت بالتدريج ، أولاً إلى زوج الشقيقة الوسطى ، ثم إلى الأخ الأكبر الذي يعود إلى الدار حاملاً النبأ لحظة تكون العروس قد سلمت بطاقات الدعوة إلى ساعي البريد ، فيأخذها ، ويطلب منه بأن يذهب ويسترد كل الدعوات التي قام بتوزيعها . ومع أن كل شيء بات واضحاً منذ البداية إلا أن الاهتمام بمتابعة ماذا سيحدث لاحقاً وكيف سيحدث، لا ينقطع لبرهة واحدة .. ينتشر نبأ الموت في الدار الكبيرة وتسأل الأم العجوز ضابط الشرطة الذي شهد الحادث فيما إذا كان قد رأى مرآة في السيارة فيجيبها بالنفي ، فتؤكد الأم عندئذ أن ابنتها ليست تلك التي ماتت ، وأن الحادث لا يعني أسرتهم ، فابنتها وعدتها بإحضار المرآة معها ولا يمكن إلا أن تفي بوعدها . لكن ثمة دلائل أخرى تؤكد الموت، تنزع الستائر البيضاء وتعلق غيرها سوداء، تغطي مرايا الدار، تقلب اللوحات ويتحطم الزجاج في كل مكان و البيت الذي كان أبيض ينقلب أسود في لحظات . أما الضيوف القادمون بثياب ملونة وهدايا الزفاف فقد وجدوا أمامهم صور الراحلين عند مدخل الدار، تضيئها الشموع ويقف قربها الأهل المنكوبين . بعضهم يظن أنه أخطأ العنوان والبعض الآخر اعتبرها مجرد مزحة .. لكنه الموت فعلاً ، لا مكان للفرح والزفاف ، ثمة حدود لا نهاية لها للحزن والبكاء والندم الذي يدفع بالعروس إلى حافة الانهيار العصبي فتعاقب نفسها بأن تنعزل عن الجميع في غرفتها حيث تنقض الكوابيس عليها حتى تغير ملامح وجهها ، في حين يبقى العريس حزيناً حائراً لا يعرف ماذا يفعل ؟ في صالة الدار الكبيرة يجلس المعزون بثيابهم السوداء ، ويتوافد المزيد منهم لتقديم تعازيهم ويأتي زوج الفلاحة نادباً، ثم تأتي زوجة السائق وأبناؤها الستة ، ويأتي ضابط الشرطة والمزيد من ضيوف الزفاف الذين لم يعرفوا بالحقيقة بعد .. يظهر فجأة سائق الشاحنة ومساعده ، مكبلين بالأصفاد ، تحت حراسة الشرطة، لتقديم العزاء لأسر الراحلين، ينقض عليهما أبناء السائق ليضربوهما في مشهد استمر أكثر مما يجب ضمن هذا السياق، ويتهاوى السائق ومساعده على الأرض ويعترفان بأنهما لم يخطئا وأنهما لا يعرفان حتى الآن سبب الكارثة الحقيقي ، فكل شيء كان يسير على ما يرام ..

الحزن يجمع هؤلاء الناس ويقرب بينهم . شخصان فقط يختلفان عن الآخرين، الأم العجوز التي ترفض أن تصدق، والعروس التي نزلت إلى المأتم وأخذت تراقب الجميع وكأنها تنوي على أمر ما تعود إلى غرفتها، تنزع عنها ثوب الحداد الأسود وترتدي فستان العرس الأبيض. يصاب الجمع الحزين بالدهشة عندما تطل العروس عليهم من الطابق الثاني ويبدو مع ذلك أن الكثيرين كانوا يرغبون سراً في أعماقهم أن يحدث هذا ويستمر الفرح رغم الحزن . يقف الجميع ويتابع العروس وهي تنزل الدرج بخطوات مرهقة ، يبادر البعض بالتصفيق وتزغرد النسوة ، والبعض الآخر لم يستوعب الأمر بعد .. لكن الذي حدث فعلاً أن العروس الشابة قررت مرة واحدة وإلى الأبد أن تخلع عنها (السواد) وتنفض كل آثار الحزن والبكاء وتعود للحياة والفرح . في هذه اللحظة يفتح باب الدار ويتراءى للجميع موكب موتى حادثة السيارة . تجدر الإشارة هنا إلى أمر ملحوظ في كثير من من الأفلام التي رأيناها ، فعندما يموت أحد في الفيلم فإنه لا يموت نهائياً ويتلاشى فلا يعاود الظهور، إنه باقٍ وسط الأحياء، أكثر من مجرد ذكرى، وهو يظهر من جديد ، تماماً كما كان ، يحمل معه رسالة الحياة ودعوة ملحة لها . تظهر أولاً الشقيقة الكبرى وهي تحمل المرآة، ويظهر خلفها زوجها وطفلاها والفلاحة وسائق السيارة ، إنهم لا يسيرون على الأرض بخطوات ثابتة، إنما ينسابون بهدوء، كأنهم يحلقون على مسافة قريبة من الأرض، تدفعهم برفق إلى الأمام ملائكة غير مرئية . تنعكس على المرآة التي تحملها الشقيقة الكبرى صور كل من في العزاء، كأنها تقول لهم، مؤكدة على ما قامت به شقيقتها الصغرى منذ لحظات : " انظروا إلى أنفسكم ، انظروا إلى السواد الذي يلفكم والحزن الذي يقهر قلوبكم ، لا تحزنوا من أجلنا ، نحن معكم ، ونريدكم أن تعودوا إلى الحياة والفرح ... " . الفيلم يترك انطباعاً قوياً، وقد بذل المخرج مجهوداً كبيراً في تنظيم اللقطات والميزانسين، واعتنى بتناسق ألوان الفيلم، وكان واضحاً في كثير من الأحيان أنه يوظف كل شيء في اللقطة من أجل حركة كاميرا دقيقة ومقاسة بالسنتميتر. هذا الفيلم يمثل حدثاً مهماً في السينما الإيرانية، خصوصاً إذا تأملنا بعمق رسالته، التي حملتها إلينا عبر الشاشة، قصة بسيطة ومعالجة متميزة .

محسن مخملباف ، الفنان والسلطان مخملباف مخرج غريب الأطوار، منزوٍ، لا يحب الأماكن المزدحمة، وإذا ظهر في مكان عام يختفي بالسرعة نفسها التي يظهر فيها، وإذا دعي لمهرجان سينمائي في أوروبا يذهب إلى المطار راكباً دراجته النارية التي لا يستبدلها بأية سيارة، مرتدياً أقل ما يمكن من الثياب ومتأبطاً حقيبة أوراقه لا غير، وعندما يحاولون في المهرجانات أن يمددوا له فترة زيارته ولو ليومين إثنين، يرفض ويؤكد على ضرورة عودته إلى طهران، فمشاريعه السينمائية لا تحتمل الانتظار .. وهكذا فإن المخرج الذي بلغ الخامسة والثلاثين أصبح رصيده حتى الآن عشرة أفلام طويلة، ويتوقع الكثيرون له مستقبلاً باهراً، وهذا ما يؤكده فيلمه الأخير الذي انتهى من إعداده أثناء فترة المهرجان وعرض مباشرة ، وهو بعنوان (ناصر الدين شاه ، الممثل السينمائي) أو (حدثت ذات مرة .. السينما) .

ولد مخملباف عام 1957 ومارس في شبابه نشاطات سياسية فاعتقل وزج به في السجن وأطلق سراحه بعد الثورة الإسلامية ، فشرع يمارس نشاطات أدبية ، ثم التحق بهيئة نشر الفكر الإسلامي مع مجموعة من الفنانين الآخرين . كتب ونشر العديد من القصص القصيرة والروايات قبل أن يحرج فيلمه الأول (ندم ناسو) عام 1982، ومن ثم (عينان لا تريان) ، (البحث عن الملاذ) ، (المقاطعة) ، (البائع المتجول) ، (راكب الدراجة) ، (زواج المباركة) ، (زمن الحب) ، (الليالي في زايانده رود) ، (ناصر الدين شاه ، الممثل السينمائي) .. يبدأ الفيلم الأخير بلقطة توجد المرآة في منتصفها وتعكس صورة امرأة تجلس على مقعد في بستان مغطى بالثلوج . يثبت المصور حقائبه على العربة الخشبية التي تحمل المرآة ، ويودع محبوبته ويدفع العربة وهو يقول : "أنا ذاهب لأبحث عن السينما وأحضرها .. " هكذا يبدأ الفيلم، وسرعان ما تتسع زاوية الرؤية التاريخية فيه، فيوظف المخرج أشرطة وثائقية تم تصويرها في إيران منذ مطلع القرن تسجل تحركات الشاه آنذاك والموكب المرافق له .. نعود فننتقل بشكل هادئ من أجواء الأشرطة الوثائقية إلى قصة الفيلم .. الفيلم أشبه بملحمة حياتية استوعبت كل الأنواع الفنية مع امتياز خاص للنبرة التهكمية السائدة فيه ، تتطور الاحداث، المصور أصبح يعمل في بلاط الشاه، ثم يلقى القبض عليه ذات مرة بتهمة التسلل إلى جناح الحريم ويوضع رأسه تحت المقصلة، لكنه ينقذ ويدفع ثمن ذلك وعوضاً عن أن تهوي المقصلة على رأسه ، تهوي على مجموعة من الكتب فتشطرها نصفين وتوقعها في السلة الكبيرة .. هذا هو الثمن !! يتابع المصور عمله في قصر الشاه ويحضر له جهاز عرض فخم يمكن مشاهدة الأفلام التي تدور بداخله من خلال فوهات دائرية في هيكل الجهاز .. يراقب الشاه الفيلم وعندما يراه مناسباً يدعو إليه أبناءه وبناته من الأمراء والأميرات ، فتفتح الأبواب ويتدفق إلى القاعة الضخمة عشرات الأولاد والبنات .. ذرية الشاه التي يفخر بها . يصبح المصور خادماً للشاه يفعل كل ما بوسعه لإرضائه ، ويستحوذ جو السينما الساحر على مخيلة الشاه إلى أن تحدث الكارثة ويقع في غرام إحدى الممثلات التي تمثل في الفيلم، هنا يتحول المصور إلى ساحر ويحدث التماس المباشر بين السينما والواقع عندما تخرج تلك الممثلة من الفيلم وتهوي من السقف في صالة الشاه ، وبعد عمليات هروب ومطاردة تختفي الممثلة وقد رفضت أن تصبح الزوجة المفضلة للشاه الذي يفقد صوابه، ويصاب بالكآبة وحالة من انفصام الشخصية حتى عندما يناديه ابنه ذات مرة بلقبه السلطاني ، ينكر أنه شاه ويدعي أن اسمه هو الذي يحمله بطل الفيلم، والذي تعشقه الممثلة .. يتلاعب المخرج في عوالم الفيلم، ينقلنا تارة إلى أجواء مأساوية، وأخرى إلى ساخرة .. تتطور السينما، لكن الشاه يبقى محتفظاً بأوهامه وبالعقلية القديمة إياها، والمصور الذي دفع الثمن في الماضي، لا يزال يدفع الثمن، والمقصلة تهوي فتشطر المزيد من الكتب . في النهاية يكون الشاه قد تحول إلى ممثل ، مجرد ممثل ، يقوم بدور مسنود إليه في لعبة تاريخية فقد زمام السيطرة عليها ، أما المصور الذي اقترب من نار السلطان حتى يتدفأ بها فقد احترق وضاع هو الآخر في سياق تاريخي ..

ماذا تبقى إذاً ؟ السينما .. الأفلام ذات المواضيع الإنسانية الخالدة . يوظف المخرج لقطات ومشاهد من أفضل الأفلام الإيرانية والتي تخدم فكرته في إبراز الصراع الدائم بين الخير والشر .. الفيلم أبيض وأسود، لكن الألوان تظهر في النهاية عندما يولف المخرج اللقطات المذكورة، ومنها لقطة فيلم (ماء ، رياح ، جفاف) حيث يحفر الصبي في الصحراء بحثاً عن الماء، فتتوالى اللقطات من أفلام مختلفة لأناس يتعانقون، يتعانقونويتعانقون. عناق تجمعه فكرة تناسي كل الأحقاد والعيش في محبة وتآلف، وربما هنا تكمن دعوة السينما وهدفها السامي كما يراه المخرج .. لأن الأفلام الحقيقة والصادقة وحدها تبقى، تلهم الإنسان مشاعر الخير والمحبة. (ناصر الدين شاه ، الممثل السينمائي) فيلم يحمل رؤية سينمائية ناضجة ، خيال شاعري رحب ، طرح فكري حساس ، وحب كبير للسينما .

(الريشة والرمان) أشياء من تاركوفسكي وبارادجانوف وأخرى من التراث والشعر
( الريشة والرمان ) للمخرج سعيد ابراهيمي فار، الفيلم الأخير الذي لا بد من التوقف عنده . ولد إبراهيمي عام 1956 ودرس الهندسة والسينما والتلفزيون في الولايات المتحدة .عاد إلى وطنه عام 1980 حيث عمل مخرجاً مساعداً في بعض الأفلام وكتب العديد من السيناريوهات. (الريشة والرمان) فيلمه الروائي الطويل الأول ، وقد فاز بجائزة التشجيع على الحوار الثقافي العالمي في مهرجان مانهايم السينمائي عام 1989 . يبدأ الفيلم مع مصور فوتغرافي شاب، يؤدي دوره الممثل جاهنجير ألماسي ، وهو يحاول تصيد بعض المواضيع المثيرة من أجل استخدامها في مسرحية سوف يتم إخراجها قريباً .ذات ليلة يخرج المصور من بيته فيجد أمامه في الشارع رجلاً عجوزاً ملقى على الأرض بعد أن داهمته نوبة قلبية، فينقله بسيارة إلى المستشفى ويتم ادخاله إلى غرفة الإنعاش . يقوم الاطباء بمحاولات يائسة لإنقاذ حياة العجوز، في حين يبقى المصور ينتظر في الممر وهو يقلب بين يديه الشيء الوحيد الذي وجده بحوزة العجوز ، دفتر أشعار مكتوبة بخط جميل ولون أحمر ، لون الرمان. أجهزة غرفة الإنعاش تشير إلى موت العجوز ، المصور لم يعرف بالأمر بعد ، والعجوز الذي من المفترض أنه مات ، يخرج فجأة من غرفة الإنعاش ويمضي في ممر المستشفى الطويل، فينهض المصور ويمضي وراءه كأنه منساق خلف إلهام مفاجئ، وكأن المخرج هنا يلجأ إلى أحد أساليب تاركوفسكي ، ففي اللقطة الطويلة يحدث تغير متدرج وكامل في معالم المكان، الكاميرا تسير وراء المصور الذي يتابع العجوز، تختفي الممرضات من الممر، لا وجود للمقاعد و الأسرة المتحركة ، ولا تلبث أن تكتسي أرضية الممر بأوراق الأشجار الخريفية الصفراء ، حيث تبدأ رحلة المصور إلى الماضي ، برفقة دفتر الأشعار التي تروي قصة طفولة وحياة ذلك العجوز .. كان شاعراً مجهولاً ، لم تحمل الحياة له سوى الأحزان وخيبات الأمل ..

أمضى طفولته البعيدة في بيت ريفي، يرصد الحياة بهدوء وبلا استعجال، فالمستقبل لا يزال أمامه، لقطات طويلة ثابتة لحياة البيت ، انعكاس الرمان على سطح بركة الماء ، الأصواف الملونة التي تجفف على الأسطحة ، والتي تذكر ببارادجانوف في فيلمه (لون الرمان) ، الرحى الدائرة ، الأزهار والممرات المضاءة بأشعة الشمس المتدفقة من فتحات السقف ، وصور أخرى تحفظها ذاكرة الصبي ،لا يلبث في مرحلة لاحقة من شبابه أن يدونها بريشة يصنعها من عيدان القصب وبحبر يمتزج فيه عصير الرمان الأحمر .. ومع الشباب يأتي الحب والزواج والحياة الجديدة .. يمضي الفيلم بإيقاع متمهمل ومتأمل، في محاولة المخرج لدفع المتفرج إلى عالم هذا الإنسان وأن يراكم في داخله مجموعة من الاحاسيس والانطباعات ، إيقاع واحد كانت تتغير وتيرته بين الحين والآخر عندما يأتي الموت أو تحدث الولادة . تبدأ أحزان الشاعر،الحياة توجه ضرباتها القاسية، فزوجته تعاني من سعال حاد وغامض، فينتقل بها من القرية لأن الجو لا يناسبها، لكنها لا تلبث أن تموت، أما الإبنة الوحيدة فقد كبرت وأصبحت تنتمي إلى عالم رجل آخر، وهكذا يعود الشاعر وحيداً أعزلاً، يسلي نفسه باعداد الريش من عيدان القصب وتخطيط أشعاره على الدفتر بخط رائع . الفيلم محاولة شاعرية بالغة الرهافة، ورغم أنه لا يقوم على أحداث معينة، إلا أنه يشد المتفرج بقوة إلى عالم أراد المخرج أن يعيد تكوينه وتسجيله بقدر كبير من الحب والتقديس لذكرى خاصة جداً ، لكن الفيلم يتعدى كونه مجرد سرد أحاسيس وذكريات خاصة قد لا تعني أحداً في النهاية ، الفيلم هو عن مأساة شاعر عاش حياة معزولة لم يتبق له فيها سوى الشعر .. الشعر وحده، والموت في النهاية . والشيء الوحيد الذي تركه هذا الشاعر، دفتر أشعار، قد يمثل زاداً غنياً لأناس آخرين يأتون بعده ، إنه يضع ذاكرته بين أيديهم ويقاسمهم إياها . تنتهي رحلة المصور مع دفتر الشعر وتاريخ العجوز الذي مات لتوه في الغرفة، تصل ابنته وحفيده لرؤيته، ولكن بعد فوات الآوان. ينهض المصور من مكانه كأن إلهاماً جديداً يقوده أيضاً ، لكنه الهام لايدفعه هذه المرة إلى ماضي إنسان ميت، بل إلى الغرفة المجاورة في المستشفى حيث يوضع الأطفال الذين ولدوا لتوهم . يدفعه إلهامه إلى المستقبل ، أطفال رضّع، وتصدح موسيقا "العالم الجديد " لدفورجاك .

في جميع هذه الأفلام حزن واضح يمتد على الشاشة وإلى خارجها ، إنه حزن أناس يشعرون بالإخفاق ، أضاعوا كل شيء ، خذلتهم الحياة في أحلى اللحظات .. لكن المخرجين يعودون في النهاية ليؤكدوا، من خلال طرق تتراوح في درجة إقناعها، إذ تتأرجح بين أساليب مباشرة وأخرى ذات دلالات عميقة ، أن الحياة والفرح سوف ينتصران في النهاية ، هذا ما يؤكد عليه نادري في نهاية (ماء ، رياح ، جفاف) بمرافقة انشودة الفرح ، وإبراهيمي فار في غرفة الأطفال بمرافقة سيمفونية العالم الجديد وبيضائي من خلال مرآة الحياة .


* * *


ثمة اتجاهات ونزعات أخرى في السينما الإيرانية، وثمة أسماء لامعة بدرجات متفاوتة، مثل مسعود كيميائي ، كيانوش أياري، داريوش ميرجوي ، مجيد مجيدي وغيرهم ..
المخرجون السينمائيون في ايران مثل غيرهم من باقي المخرجين في العالم .. كثير منهم يحمل هموماً إنسانية خالصة ، يحاول العثور على لغة خاصة تتميز بالصدق والأصالة ، ويطرح أفكاراً تؤرقه وأحلاماً تراوده ..المخرجون هناك يحلمون أيضاً ، وأحلامهم لا حدود لها ..



* * *