BACK       عودة


"اغتيال جليلة ".. بلاغ فني ضد قتلة الفضيلة

من أنواع الموت العديدة ،وما يحل بضحيته من دون موعد صارم أو منطق مألوف، وإنما باستخدام الوقت الممتد والوحدة والعمر، جسراً نحو غايته في قتل النفس قبل الجسد والموت المتربص ب"جليلة " كان من هذا النوع. ومشهدها الأخير وهي تجلس مستسلمة تحدق في الظلام وتنتظر، هو دلالة بليغة على انهيار كائن حي وانتظاره للموت بعد ما سلبه القتلة حياته . وبقدر ما تقدم هذه الدراما التلفزيونية السورية الجديدة ( جليلة) بلاغاً ضد قتلة بطلتها، بقدر مايظل هذا البلاغ تائهاً وضائعاً في فضاء حياتنا ، لا يجد من يتسلمه ويحقق العدل . فقتلة "جليلة " هم أخوتها حسام وحسان ونورا ( بالتبعية القسرية لزوجها ) . والقانون في وطننا العربي الذي لا يجرم الأب الذي يسئ معاملة طفله ويتركه للشارع ، فما بالنا بمن يلقون بالأخت التي أفنت حياتها من أجلهم، وتنازلت عن حقها في الحب والزواج والأسرة لتتيح لهم فرصة النمو والتعليم ثم التألق الاجتماعي والمادي ..تركت حبيبها (كمال ) ينتظر، ثم يمضي بلا عودة لأن حسام يريد إكمال تخصصه ونورا مازالت صبية ، وحسان لم يقف على قدميه بعد . وتركت جليلة أيضا ًنفسها ومظهرها الذي يتفاءل برؤياه أهل الحارة بلا عناية ، ووهبت نفسها لأخوتها .. ومر الزمن سريعا ً.. وجدت الأخوة وقد كبروا واستقلوا وأصبحوا " كيانات " اجتماعية محترمة ونسوها وتركوا لها الجدران تحادثها ، سواء أكانت جدران البيت أم جدران الذاكرة فهل تصلح الذاكرة بديلاً عن الحياة ؟ وهل تتحول هذه التضحية الغالية لجليلة إلى سجن اجباري يلزمها بالوحدة حتى الموت ؟ وكيف يتعامل الناس بتلك الخساسة مع شخصيات لها حجم ووزن بطلتنا ، في حياتهم؟
تلك الاسئلة وغيرها طرحتها الكاتبة ديانا جبور في أول أعمالها التلفزيونية بقدر كبير من الفهم لحساسية وضع المرأه في بلادنا وقدر كبير أيضاً من تجريد التفاصيل الصغيرة وتحويل الدراما إلى مرثية للخلل الذي يمسك بأطراف المجتمع كله .فعلى الرغم من أنها مأساة تلك المرأة ، كبيرة القلب ونبيلة السلوك، إلا أنها أيضاً مأساة وأزمة كل هؤلاء الذين قتلوها :أخوتها ،وأهل الحارة وأيضا أم محمود ، الجار الشاب الذي احب "جليلة" وتزوجها فرفضت أمه وأخرجته من حياتها وأعلنت عليه الحرب ، تماماً كما أعلن الاخوة المحترمون الحرب على أختهم "الأم" لأنها أحبت وتزوجت بعد هذا العمر. من ناحية اخرى تطرح هذه الدراما بشكل أشمل وأعمق قضية الحرية المهدورة في عالمنا ، والخصوصية المفقودة والالتزام والدفء الانساني الضائع، ولعل اجمل مافيها عموميتها وشيوعها ، أي تعدد القصص التي من هذا النوع في كل مكان من الارض العربية .فأمثال"جليلة" كثيرات في مصر والمغرب والعراق، وكل مكان من بلادنا ، تضحياتهن لاتعد ولاتحصى ، والتعامل معهن أصبح كما أوجزته المؤلفة بدقة ،على لسان نورا، (كأنه ماء سبيل لما ارتوينا منه رحلنا). ولعل شيوع اهدار حرية الانسان عموماً، والمراة خصوصاً ، وانكار تضحياتها هو مادفع المؤلفة، والمخرج باسل الخطيب ، الى ت‍ظليل عملها برداء من الحزن والأسى وحس التأمل ، كما يبدو في الحوار الموجز المعبر ، فالثرثرة ضد القضية ، وتلك اللقطات القصيرة المتعددة الإيقاع والبارعة الإيحاء بالزمن ،من الماضي والحاضر ، وكذلك الحركة والسكون ، تقترب بالمشاهد من لغة السينما وبلاغتها وتبتعد عن الإطالة التي فرضها التلفزيون في دراماته الممتدة .ولعل تلك البلاغة آتية أيضاً من مقدرة فريق العمل المميزة بداية من "الديكور" سحاب الراهب الذي يدخلنا في عالم "جليلة " من أول لقطة من خلال غرفة نومها ،أشيائها وألوانها التي تنذرنا بحالتها النفسانية حتى قبل أن نراها ومع براعة الفنان في غالبية الأجواء التي رأيناها تتناسق مع براعة المصور محيي الدين المصري ومدير الإضاءة بهجت حيدر ...فكلاهما كان وجوده ملموساً مؤثراً وغير محسوس أو مزايد على المشاهد بغرض استعراض عضلاته .كذلك موسيقى فاهية دميرجيان التي نجحت في أن تصبح جزءاً من التعبير الدرامي . استطاعت ممثلة الدور النهوض بالشخصية بشكل خلاق ، وبحيث سيطر فهم الفنانة سمر سامي لكل أبعاد دورها ومايطرحه من قضايا على الأداء وعلى تعبيرات الوجه فأدخلت المشاهد في حالتها ليتبنى مشاعرها وقضيتها .وبشكل عام فان الأداء يتمتع بتوازن وانسجام ملموسين مع ممثلين أحسنوا التعبير ،وأحسن المخرج اختيارهم في البداية خصوصاً ممثلي أدوار حسام ومحمود و نورا وأم محمود ... ولعل من أهم ميزات المخرج أيضا حسن استخدام ممثليه في مقدمة الكادر ،أي بالمعنى الحرفي لما يصدر عنهم من حوار ، ثم في خلفية الصورة ،وبحيث يغيب وجودهم الواقعي في إطار تكثيف الاهتمام بالمعنى وتأمل السلوك ، وهو البعد الأكثر عمقاً من مجرد تلقينا حركة الممثلين وسلوكهم ، وبحيث ينتهي العمل وقد دخل إلى أبعد منا ،فهذه ليست حكاية عن الأخت التي أنكر أخوتها تضحياتها وأهملوها ، ورفضوا أن يتيحوا لها فرصة ثانية للحياة مع شخص أحبها وأحبته ، بل هددوها بمستشفى الأمراض العقلية بديلاً عن بيت الأسرة الذي قضت عمرها فيه .كما أنها ليست حكاية عن فتاة تنازلت عن حقها في الحب من أجل تربية أخوتها الأيتام ، فلما كبروا فرضوا عليها التنازل عن حق الزواج بمن أحبته في مرحلة متأخرة لأنه أصغر منها ، وأيضا ليست"حدوتة" الطمع أو الجشع الذي يدفع بالإخوة إلى "نهب" أختهم في الماضي ثم في الحاضر ، والبحث عن "رصيد ميت" ممثل في شقة ، العائلة لإحيائه ولضرب تلك الأخت في مقتل ، ولكنها دراما عن الانهيار النفساني والأخلاقي والاجتماعي العميق ، وعن تدهور القيم إلى درجة اغتيال الفصائل الجميلة الباقية في حياتنا .. إنها دراما عن أنواع جديدة من القتل يمارسها البشر تجاه بعضهم بعضا...ويمارسها الأخوة أمام الجميع ..وكأنها الفعل المشروع .. فمن يقتص من قتلة “جليلة"..وكل "جليلة"أخرى؟

ماجدة موريس ( مجلة فن 1993 )