|
الرؤية الأخيرة
في أولى أعماله للتلفزيون يقدم (باسل الخطيب )نفسه مخرجا ًوكاتباً متمكناً
من أدواته التعبيرية ، وقابضاً على ناصية اللغة الفنية . ونستطيع أن نلمس
ذلك بوضوح في الفيلم التلفزيوني ( الرؤية الأخيرة ) ..
ويمكن أن نشير، بادئ ذي بدء، إلى مسألة في غاية الأهمية والخطورة في وقت
واحد، وهي المزاولة بين التأليف والإخراج . هناك حالات كثيرة تحول أصحابها
إلى مخرجين لينفذوا نصوصهم أو تحول فيها المخرجون إلى كتّاب ليضعوا عملاً
كاملاً من إنجازهم .وفي الحالتين فإن النسخة إما أن تكون نجاحاً كبيراً أو
فشلاً ذريعاً. مايحدد ذلك هو الوعي الفني والفكري والجمالي للقائم على
العمل، فأين تقع تجربة باسل الخطيب ؟
لقد استطاع مخرج (الرؤية الأخيرة ) أن يستنبط جوهر العلاقات الإنسانية التي
هزتها مجموعة القيم الطارئة والمستحدثة، والتي أخذت تدخل في تركيبة الإنسان
وتستقر في بنيته الخفية دون أن يدري .. إنها تشبه أمراض السرطان التي
تستشري في جسم الإنسان فلا يحس بها إلا بعد أن تتفاقم وربما فقدت فرصة
الشفاء.
قراءة استفزازية للواقع
قدم الفيلم قراءة استفزازية لتفاصيل الواقع اليومي والوضع المعيشي الجديد
والمؤسس على مفهوم استهلاكي أفقد الحياة شطراً كبيراً من حميمية الإرتباط
الإنساني، فاختار لذلك طقساً يفي بحاجة الفكرة وتنويعاتها، تلك هي الأسرة
التي بدأت تتفكك وتتداعى بمجرد أن غاص أفرادها في هموم الحياة الجديدة
واستجابوا لواقعها الصعب، إنها أسرة تتألف من خمسة أخوة حسن، مصباح،حورية،
إيمان ومحمد الغائب والذي يُحكى عنه دون أن يظهر).. لم يعد بينهم من رابط
إلا وجود أمهم على قيد الحياة بعد وفاة الأب ، حيث فقدت تلك العائلة دعامة
هامة برحيله وركناً أساسياً في الارتباط ، وغرق كل ٌ منهم بهمومه ومشاكله،
وتوزعوا لكسب قوتهم، ولم يبق إلى جوار الأم المريضة سوى (حسن) وهو أشدهم
حرصاً وخوفً على أمه .
مُتاجرة غير مشروعة
لاحقت كاميرا المخرج أفراد العائلة، كلاً في موقع عمله لتوضح تأثير الآخر
والمحيط على كل منهم ، فابتدأت مع حسن المستقر،الذي اتخذ من التهريب عملاً
أساسياً له، واستطاع أن يجد لعمله هذا تبريراً اقتصادياً، ومن خلال الملمح
في الشخصية نجد أن مفاهيم المدينة لاتنحصر فيها بل تمتد إلى الريف لتأثر
فيه وتفقده نقاءه ..فعلى الرغم من إنسانية حسن وحساسيته الشديدة إلا انه
اضطر لممارسة نوع من المتاجرة غير المشروعة فرضها عليه المفهوم الاقتصادي
المزيف والممتد من الواقع المدني .
أما (مصباح وحورية ) فهما شخصيتان وقعتا ضحية المفهوم ذاته ، فالأول موظف
بسيط واقع تحت سلطة رؤسائه المسلوخين عن الإنسانية، والثانية تعمل خادمة
وتضطر إلى تلبية طلبات الطبقة الراقية كي تحافظ على حياتها وحياة أطفالها
...إن كل ذلك الخواء الإنساني والفتور في العلاقات سببه الضغط الحياتي الذي
لايترك الإنسان أن يفكر إلا في نفسه وحسب .
امتحان الغربة
يأتي مرض الأم كامتحان حقيقي لأفراد الأسرة عموماً في ارتباطها المتبادل
رغم أن هذا الحدث يجمعها ، ولكن الإحساس بالغربة يبدو واضحا لدى كل منهم،
وهي غربة ذات وجهين :غربة كل واحد عن الآخر، وغربتهم جميعاً عن المكان،
فمصباح وحورية يحملان المدينة إلى الريف، ولا يستطيع الحدث الأساسي ،مرض
الأم ، أن ينسيهما واجب العمل الذي أصبح هاجساً مخيفاً، أما إيمان، فهي
أكثرهم شعوراً بالاغتراب لأنها لم تستطع أن تكمل حياتها مع زوجها في
المدينة، ولا أن تعود إلى منبتها، ولذلك فهي تعيش ضياعاً حقيقياً وربما
كانت أختها حورية أكثر استقراراً وقناعة بحياتها وظروفها .إنه نموذج مصغّر
عن الأسرة الكبيرة لخص هذا الخراب الذي أحاق بالعنصر الإنساني عموماً ودفعه
إلى التأزم من حيث لايدري .
معالجة شاعرية
لقد أوصل المؤلف - المخرج مقولته بأسلوبية فنية تمتعت بشاعرية المعالجة
وغنى الدلالة ، واستطاع أن ينقل الفكرة عبر صورة تعبيرية تميزت أولاً بحس
انتقاء مواقع التصوير خاصةً في مشاهد الريف التي أعطت عمقاً في الكادر ودقة
الإيقاع العام للمشاهد، وثانياً بتوظيف الكاميرا وإعطائها المهمة القيادية
في إبراز المعاناة الأساسية، دون الإرتكاء على عنصر الحوار.وقد كان أداء
الممثلين عامل ارتقاء بالفكرة بما حملته كل شخصية من صدق فني أولاً، وتجانس
مع طبيعة العمل ثانياً، واختلاف عن الشخصيات السابقة ثالثاً، فكانت الفنانة
نجاح حفيظ مثال الأم المستوعبة لأفراد عائلتها والحريصة والمحبة بصمت . لقد
استطاعت هذه الأم أن تتنبأ بنهايتها ولم يحزنها ذلك قدر ما أحزنها حال
أولادها وما آلو إليه من اختلاف وخصام .
عبد القادر منلا ( مجلة فنون 14 - 6 – 1993 )
|