BACK       عودة


باسل الخطيب في استراحة سينمائية من أعباء التلفزيون
( الرسالة الاخيرة ) فيلم "مؤثث" بعناصر طبيعية

من الأفلام السورية التي حققت خلال الفترة السابقة فيلم (الرسالة الأخيرة ) للمخرج باسل الخطيب الذي قدم عددا من المسلسلات الأثيرة .
يروي ملخص الفيلم : " في سنوات الأربعينات ، وفي بلدة سورية تخضع لسيطرة الانتداب الفرنسي ولنفوذ المتسلطين ، ويرزح أهلها تحت موروث ثقيل من الخوف والفقر واليأس، يظهر فجأة ، بعد غياب طويل ، أحد أبنائها ، طاهر الطويبي ، يعود وهو يحلم بتغيير حياة الناس وتصفية حساباته مع الماضي وفرض مفهوم العدالة كما يراها .ينشئ طاهر كيانا مستقلا قوامه القوة والمال ، ومايلبث أن يكبر شيئا فشيئا الى ان تواجهه انعطافات مأساوية حادة . الحقيقة التي يكتشفها طاهر في النهاية ، أن تاريخ الانسانية كله ليس سوى محاولات مستمرة وغير مكتملة ،لتحقيق العدالة ".

درس في الجودة
من بين مسلسلات باسل الخطيب نذكر ( جواد الليل) الذي لعب بطولته الممثل السوري أيمن زيدان بطل أعمال عدة جسد فيها شخصيات متباينة ...وكان في جميعها مقنعا من دون اخلال بعنصر الامتاع .. في ( جواد الليل ) يؤدي دور أحدب مشوه ومتيم بحب غادة ، مضاهيا الممثل الأمريكي أنطوني كوين حين أدى الدور نفسه في فيلم ( نوتردام دو باري ) عن رواية فيكتور هوغو . في (الرسالة الأخيرة ) يتبوأ أيمن زيدان درجة أرقى من الأبداع بتقلده دور البطولة وقد اعتمدت الكاميرا على حضوره الجسدي ، البشري في شكل ساحق ، فتفننت في تضخيمه لاعلاء شأنه من زوايا متفرقة مستعملة العدسات المكبرة بوفرة ، وكذلك فعلت ، وإن بدرجة أقل، لاجئة الى العدسات المتوسطة ، مع بقية الرجال المتميز أغلبهم بالسموق وصلافة الطبع، وعلى رأسهم الممثل التونسي فتحي الهداوي في دور الحاكم الفرنسي . عمد باسل الخطيب في غالبية المشاهد واللقطات المضخمة لشخوصة الى طمس معالم الديكور مكتفيا بخلفية قاتمة وانارة قوية كاشفة للشخصية المحورية في الفيلم ألا وهي "الانسان" في تفاعله مع نظيره لاسيما شخصية البطل وكأنه البيدق الرئيسي في لعبة الشطرنج"الملك" الذي يحسب له ألف حساب قبل تحريكه..سيتأكد هذا الطرح في آخر مشهد حيث يلفظ طاهر الطويبي أنفاسه فوق رقعة الشطرنج الكبيرة المرقطة بالمربعات البيضاء والسوداء . وكأن توظيف هذه الرقعة الصغيرة منها كأداة تسلية بين طاهر وحمدي بك، أو الكبيرة كمسرح احداث ، ذكيا وكأن الحياة برمتها ماهي الا لعبة شطرنجية تحبل بالأبيض والأسود : الايجابي والسلبي ...الخير والشر..الأحمق والعاقل..الجواد الأصيل والهجين ...ملك منتصر وآخر مهزوم ..وفوقها اذا سيموت طاهر لتعلن نهاية اللعبة أن "مات الملك"..

نهاية سوداء
سعى باسل الخطيب الى تدوين رسالته الأخيرة على متن صفحة داكنة فكان أهم لون غلف به مجمل مشاهد الفيلم يدرج مابين الرمادي والأسود الفاحم الى الأزرق المغلق . فجاء هذا الوشاح كاتما على النفس لقتامة الوضع السياسي والإجتماعي الذي تتفاعل فيه الوقائع (سورية تحت سيطرة الانتداب الفرنسي ونفوذ المتسلطين إبان الأربعينات ). كان طاهر يصارع بكامل قواه لإحلال العدالة والحق في مستنقعه .. سائر ملابسه تأرجحت بين هذه الألوان الثلاثة ، ونادرة هي المرات التي ارتدى فيها ثيابا فاتحة إلا في مشاهد زفافه عندما كانت الكاميرا تلجأ في المناظر العامة لتؤطر العروسين أو العاشقين وسط الروابي والحقول الخضراء، والفضاء الفسيح المبهج .وبالتالي كان الرديف الثاني للأسود- كما في لعبة الشطرنج – هو الأبيض الذي وظف بتلقائية لرسم تباشير البراءة والفرح كما هو ثوب زفاف زوجته الثالثة شهلا، التي زفت وأغرقت في قميص أبيض ناصع دلالة على طهرها وبرائتها المغتصبة . بتناغم الألوان وتكاملها ، غدا الفيلم معرضا تشكيليا متحركا لمشاهد، متشحة بالسواد الفاضح في الديكورات الداخلية كما الخارجية، تجسدت الأولى في الدهاليز والأقبية المعتمة تتصاعد من بعضها أبخرة بقدر ماكانت تحجب المعمار المصاحب ، كانت تبرز العنصرالبشري "الإنسان" الأهم حتى تمنحه كامل زخمه التعبيري . من أغنى المشاهد المعبرة عن هذا المنحى في الديكورات الداخلية : مشهد أو لوحة المقابلات التي كانت تتم بين طاهر والبرلماني حمدي بك فوق رقعة الشطرنج الكبيرة، داخل قبو سمع فيه صوت ارتطام قطرات ماء ببركة لا ترى وإنما يرسمها المشاهد في ذهنه نظراً لقوة المؤثر الصوتي الموظف وبلاغته، موت ظاهر المومأ إليه إلى جانب حورية كنهاية أولى في شكل تراجيدي يحيل نهايات "عطيل" و "روميو وجوليت" لشكسبير، ثم موته أو خلاصه الرمزي كنهاية ثانية، يرمي نفسه في بركة الاستحمام التي كان يغشاها في صباه، وهكذا عاش طاهراً في حياته وتوفي أو بالأحرى أغرق نفسه في حمام الطهارة من حيث استقى اسمه، ثم مشهد الولادة ... أما بالنسبة إلى المشاهد الخارجية المتشحة بالسواد والقتامة فمن أقواها ذلك الذي سيعدم فيه الحارس الخائن الذي هم باغتيال طاهر إذ صور برمته في منطقة صخرية مفحمة بالزفت .. كل ما ومن فيها كان مصبوباً ومطلياً بالقار : أردية جميع الشخوص من عساكر ومعدم ومعدوم وآمر بالإعدام .. السيارة ... الخيول .. الأرضية ... التراب الكالح الذي ينهال على جثة المعدوم ... إنها فعلاً " نهاية سوداء" لخائن ثبتت خيانته ، هذا بعكس مشهد مشهد إعدام شهلا التي لم تثبت خيانتها فتم إغراقها في كامل لباس براءتها الأبيض بخلاف لباس معدمها ومحبها في الوقت نفسه، صادق، لتطفو جثتها بهدوء شاعري على ماء نهر أزرق نظيف ... مشهد ملحمي مليء بالمفارقات الأسود والأبيض .. والظلم والبراءة .. القتل خوفاً والحياة جبناً لمحب سفاح تجشم بلا شك شعوراً فظيعاً بإثمٍ خرافي لن يخلصه منه سوى الإنتحار .

عناصر طبيعية
من خلال هذه الوحدات الفنية والتقنية وغيرها ، يبدو باسل الخطيب مخرجاً متمكناً من أدواته، سابراً لأغوار الكتابة بالضوء واللون والصوت، ولدلالات عدد من العناصر الطبيعية أهمها النار ..التراب ..فالماء .. فالنار كانت مولعة بالشهب المبثوثة في جدران الأقبية .. والسلالم والشموع كما في الأفئدة .. وقد وظفت بشكل رمزي بليغ في مشهد حورية ،التي كانت تضطرم بداخلها نار الغيرة ، وهي تتفرج على إعدام شهلة ، اذ ارتدت زيا ضيقا فاحما واقتعدت شبه عرش اضرمت النار في جوانبه . التراب في مشهد إعدام الخائن المذكور حيث رمى طاهر بحفنة تراب كالحة على رأس الضحية قبل إعدامه ، وهذه وحدها كفيلة بقتله مرات عدة أكثر مما فعلته حفنة البارود التي أفرغت في رأسه ، ثم دفن تحت كومة تراب كبيرة من الصنف نفسه . أما عنصر الماء ، سر الحياة، فبه استهل الفيلم واختتم من خلال بركة الاستحمام والطهارة والخلاص، وخصوصا مشهد هطول مطر مدرارا مباشرة بعد قتل شهلا لعله يغسل ذنبا لايغتفر ويطهرالمكان من تواطؤ وجداني بين القاتل والمقتولة . تبقى إشارة غير أخيرة للمؤثرات والموسيقا التصويرية التي لم تهدأ طيلة مدة الفيلم (120 دقيقة) وهي موسيقى ملحمية امتزج فيها اللحن العربي بالغربي وكذا الآلات : العود ، الكمان، البيانو، في صولوات شجية كانت تنصهر أحيانا بهدير رعد مكتوم أو قطرات ماء غير مرئي.. فحققت هذه الموسيقى ثراء مشهديا وسمعيا جعل منها البطل الثاني للفيلم الى جانب الإنسان.

خالد الخضري ( جريدة الحياة 17- 5- 2002 )