|
توريث الأرض والقضية
في رواية باسل الخطيب
"أحلام الغرس المقدس"
الروائي الشاب باسل الخطيب في غنى عن شهادتنا. فقد حصلت روايته الهامة (أحلام
الغرس المقدس)على جائزة د.سعاد الصباح للإبداع الفكري بين الشباب العرب
وصدرت عن الهيئة المصرية للكتاب ومنتدى الفكر العربي بعمان عام 1990 .
وإذا كان كل عمل أدبي أو فني يشكل عمارة هندسية ،صغيرة أو كبيرة ، فان
الرواية تحديدا أقربها الى استحقاق هذا الوصف ،بل إلى تطلبه واشتراطه .
فالرواية دائماً مشروع كبير يستلزم الاعتكاف والانكباب .ولا نكفي فيه
الخاطرة الوامضة أو الانفعال الحار ،وإفراغ الشحنة في جلسة أو جلستين .
نحن في الرواية أمام معمار مقصود متعوب عليه ! أمام عالم أعيد بناؤه! أمام
حياة إنسانية ، بل أمام عشرات الحيوات ، المتناثرة في المكان والزمان ،
التي أعاد الروائي صياغتها وفقاً لرؤيته الخاصة ، وبموجب نظام معين ، ليجعل
منها الوثيقة والشهادة على العصر ، والرسالة الموجهه إلى غيره من الناس.
وهجرة الفلسطينيين من فلسطين عام 1948 واحدة من الحوادث التاريخيةالأكثر
مأساوية ، الأحفل بالأحداث والمشاعر والتأثيرات والنتائج . ومع ذلك فان
الأعمال الروائية التي استلهمتها في الأدب الحديث نادرة وفقيرة .وفي وسعنا
أن نقول بثقة إن ذلك دليل على أزمة الأديب العربي وتخلف الأدب في هذه
العقود بالغة السوء من حياة الامة العربية ، التي تتوالى عليها التحديات
والمحفزات ، دون أن تلقي الاستجابة اللائقة .ومن هنا فان نظرتنا الى رواية
(أحلام الغرس المقدس) بقلم الأديب والمخرج السينمائي باسل الخطيب ، تطبع
بالتقدير ، ومن حيث أن مجهوده انصرف الى ميدان من ميادين الريادة الفنية ،
في عمل كهذا العمل ، يسجل هجرة كبيرة بهذا القدر، قرينة دالة على مبلغ
تفانيه والتزامه واحساسه بالمسؤولية ، وقبل ذلك ، على العشق البناء الذي
يعمر قلبه تجاه وطنه فلسطين .
ورواية (أحلام الغرس المقدس ) ليست من الروايات التي يمكن تلخيصها كما لو
كانت (حدوتة). فمحكمة الحياة والموت التي نظمها هذا الروائي ، تشمل على
جوانب إبداعية لا تحيط بها إلا اللغة التي كتب بها العمل .
"البطولة" في هذا العمل الروائي موزعة بين شخصيات عديدة ، فضلا عن أن
الطبيعة الفلسطينية تبدو في كثير من الأحيان عنصرا فاعلا كالشخصيات ، سواء
بسواء، ناهيك عن "الأحداث" التي لاتقبل أقل من وصف البطولة الفنية في عمل
كهذا يسجل هجرة قرية من قرى الساحل الفلسطيني أثناء كارثة 1948 في فلسطين.
" يوسف العربي " اللاجئ الفلسطيني الشاب ، الذي يعمل مدرسا ، ويقيم في غرفة
على سطح إحدى البنايات ، هو أول الشخصيات التي تطالع القارئ ، إن حياته في
هذه المدينة من مدن المنفى تذكرنا بأجواء "جيمس جويس " وأحيانا " البير
كامي " بل و"فرانز كافكا" وبأبطالهم المحكومين بالعزلة ، المنسحبين إلى
داخل ذواتهم . وتلك هي الغربة، غير أنها ليست غربة الإنسان الفرد في مواجهة
مجتمع المدنية الآلي ، ولاغربة العبث الفلسفي، وإنما غربة الإنسان الذي
اختبر في طفولة حياة مليئة غنية، عامرة بالعلاقات الدافئة ، قريبة من
الطبيعة وأشجارها وبحارها وتلالها ، ثم انتزع منه ذلك العالم ، واضطره الى
العيش على هامش المدن الكبيرة .
ومن خلال تيار الذكريات المنساب من ضمير يوسف العربي ، أو من خطواته
وهواجسه وأحيانا من أحلامه ، يعود بنا باسل الخطيب إلى القرية الضائعة ...يعرض
تحت أنظارنا حياتها اليومية ...ويصور لنا مشاهدها ...ويحتفي بعاداتها
وتقاليدها وكفاح أهلها من أجل العيش ، تصويرا بارعا لا تنقصه الملاحظة
الذكية .
وعيسى العربي ، والد يوسف ، فلاح فلسطيني نشيط ورث عن أبيه الشيخ خيري حبه
للأرض والزراعة والعائلة .وورث عنه تقاليد جميلة بسيطة ، تلخص علاقته بغيره
من البشر وعلاقته الفريدة المميزة بالأرض . من بين هذه التقاليد في أسرة "العربي"
الفلاحية ، قيام كل فرد منا ، في يوم من أيام طفولته بغرس شجرة خاصة به
تنتسب اليه طيلة حياته :" اختار محمود ، الشقيق الأكبر (المسمى باسم عمه
الشهيد )، ركنا في الفناء قرب باب الدار الخارجي ، وغرس شجرة كباد ...."."أما
إبراهيم ، الذي ولد بعد محمود بعامين ، فقد وجد أن الفسحة الصغيرة المرتفعة
والممتدة أمام الدار من بابها إلى الخارج ، هي المكان الأمثل لغرس شجرة
زيتون "....
"وكانت وفاء تشبه شقيقها إبراهيم في أمور كثيرة ...كانت تشعر كل صباح ،
عندما تستيقظ وتنظر كعادتها عبر النافذة ...بأن ثمة ما تفتقده هذه اللوحة
الريفية ..ولم تكتمل إلا بعد ما كبرت شجرة الليمون التي غرستها ..." وحينما
حل اليوم الذي كان " يوسف " الصبي موشكا فيه على زرع شتلة تين ،اختارلها
مكانا عاليا مطلا على البحر ، وأثناء إتباعه للطقوس الهادئة ومحاولته تنفيذ
وصية الأب: "اجعل الأمر سرا بينك وبينها "...تنفجر الحوادث التي طالما خيمت
كالضباب الأسود فوق الرؤوس.. لقد زرع يوسف شتلة تين في الموضع المختار ،
ولكن لم يقيض له أن يشاهدها تنمو ، ولم يقطف من ثمارها إلا علقم الهجرة ،
بعد استشهاد والده وأخيه الأكبر .
نعم ...كان الفلسطينيون يحلمون بصنع الحياة ، ويمارسون الخصوبة ، بينما كان
العدو الوافد الطارئ ، يجهز لصناعة الموت والمأساة . وحين فاجأهم بلحظة
الصفر ، لم يولوه الأدبار ، بل قاتلو ..ولكنهم كانوا فلاحين أولاً ،أما
العدو فجاء مقاتلا منذ اللحظة الأولى ، ولم تكن المهن الأخرى التي مارسها
إلا سواتر لإخفاء نشاطه ونواياه الحقيقية. كيف كان يمكن للفلسطينيين الذين
يملك بعضهم عددا من البنادق القديمة، أن يكسبوا الحرب أمام عدو أعد لهم
الطائرات في الجو ،وتسلح بالمدافع الرشاشة ومدافع الهاون ؟!... كل ما كانت
تملكه قرية يوسف العربي ثلاث عشرة بندقية قديمة .هكذا يقرر باسل الخطيب في
فصل المعركة .وهو في ذلك يستوحي الأرقام التي ذكرتها المراجع التاريخية عن
تلك الفترة . وهي صادقة . كما أن المؤلف صادق .كان رب الأسرة يعمل في الأرض
، والابن الأكبر يتهيأ لعقد قرانه على "صباح" ومجاهدو القرية يحسبون أنهم
تداركوا الخطر الأعظم بقتلهم "عثمان ومراد" الخائنين المفرطين في الأرض ..وكان
يوسف نفسه يغرس شجرة الرابية ...وبغته يصل الغزاة الذين كانوا على موعد خفي
مع اليوم واللحظة والثانية ، لينشروا الموت والدمار في القرية الآمنة .
"يمكن لأي انسان أن يتصور ماذا يعني كل ماحدث . اولئك الناس الين رأو بأم
أعينهم نهاية كل شئ واندثار ديارهم الى الابد ، هم وحدهم يعرفون معنى هذا
".
ومابين الحب الأسري ، والعمل ، والصداقة ، واكتشاف الطبيعة ، عاش
الفلسطينيون حياتهم قبل نكبة 1948 .تلك الحياة الجديرة بأن تعاش . ولنقرأ
كيف عثر الأب عيسى العربي على الأم حنان ، وكيف أحبها .
"كان قد لمحها أول مرة في جبل الخليل ، بالقرب من دار والدها حيث تنهض أربع
بلوطات عملاقة ، تحيط بها من جميع الجهات مشاتل النعناع الخرافية .وكان
الانطباع الأول أنها لم تكن مجرد فتاة ريفية تمضي سائرة على قدميها ، وإنما
ملاك جنة جبلية يحلق على ارتفاع سطح قريب جدا من السطح المبلل بامطار
خريفية ..." هذه اللقطة التي برزت فيها "حنان " يحف بها الجبل وشجر البلوط
، وتترامى عند أقدامها مشاتل النعناع ، رسمها الكاتب ليجعلها شيئا من
الشخصية ، لا مجرد اطار عابر . أن رائحة النعناع تظل تفوح من هذه المرأة
الأم ، بعد أن تكبر وتنجب الأولاد.
"اشتعل الحب في فراشهما .توهج واخترق فضاء الغرفة التي احتفظت رغم السنين
بروائح النعناع القديم ".وفي ليلة صيفية ملتهبة بالحب قال لها :" إنها
رائحة جميلة رغم كل شئ ".وكانت هذه الرائحة السحرية ،رائحة اشتعال أوراق
الزيتون والنعناع، بل إن رائحة النعناع ، لم تفارقها في شيخوختها ، وإن
كانت آخذه في التلاشي:"لكنه عندما احتضنته أمه هذه المرة ، خفق قلبه بشدة ،
وانتابه إحساس مثير بالفزع ، فمع رائحة النعناع التي كانت تتلاشى من جسدها
وجد يوسف نفسه في جرف سحيق.."
تلك الطبيعة الفلسطينية، أي الوطن الفلسطيني الصغير ، الذي تغلغل في أهله ،
وصار جزءاً منهم . وربما كانت رواية باسل الخطيب بأجمعها قصيدة طويلة مكرسة
للكشف عن تلك العلاقة بين الإنسان الفلسطيني وأرضه ، والتغني بها عبر
السنين ، بلغة شفافة اتسعت مفرداتها للموسيقى البعيدة التي تبدو صادرة عن
قلب الأرض . إن هذا التوحد بين الإنسان وأرضه ، يأبى الانفكاك . فالطريق
إلى الوطن المفتوح دائما ...وفي حانة ألأرمني العجوز بمدينة الاغتراب ،
عندما تقذف رياح الخمر بالمعلمين الثلاثة السكارى عند ختام رحلتهم :"تدخل
يوسف بصوت نجي: " ان الوطن لايضيع ..."،ثم استأنف بعد وقفة قصيرة : "نحن
الضائعون".
على أنه ليس الضياع المطلق، وإذا كانت الأم تشعر بأن شمس عمرها آذنت
بالغروب وإذا كان الأشقياء بهم النكبة ، والضائعون في دروب الاغتراب قد
كلوا وأرهقوا بأحزانهم ، حتى ان لقاء الأم بابنها بعد سنوات الفراق الطويلة
، يشوبه الصمت الثقيل وتكتنفه الغربة ، فان أجيالا جديدة تأتي لتعيد فتح
الحوار بتلقائية وجرأة أكبر ، جاعلة من الذكريات زادا وتراثا وقوة دافعة .
إن قصة الجد الذي خرج ببندقيته القديمة يطلق النار على الجراد الذي زحف على
فلسطين ذات عام من الأعوام البعيدة ، وقصة المجاهد الذي أعطى الصبي رصاصة
على سبيل التذكار ، وعشرات القصص الأخرى ، تصبح ذخيرة للأجيال الجديدة التي
تهرع إلى شرفات الوطن ، وتنظر من وراء الحدود وقد عرفت القضية التي تستحق
أن يبذل العمر من أجلها .
"ثم أدرك شيئا جديدا . فالوطن الذي كان بالنسبة إلى والده سراج ذاكرة خصبة
لايخبو وخليطا من الرؤى السحرية والروائح الخرافية ، أصبح بالنسبة اليه
جزءا من اكتشاف مذهل وتفاقم فجأه في أعماقه ذلك الإحساس المعذب ، المدعو
بالحنين.. الحنين الى الوطن الذي لم يره إلا اليوم ..الحنين إلى الذكريات
التي لم يملكها أبدا .."
تلك هي الفكرة الأساسية في رواية (أحلام الغرس المقدس) .وهي تنساب عبر
صفحات الرواية ، من خلال الوقائع المسترجعة والصور الغائبة . وبصورة خاصة
من خلال الأحلام الليلية التي تشكل جزءا هاما من الرواية . وأظن أنني لم
أقرأ رواية تحتشد فيها هذه الكمية الهائلة من الأحلام الليلية . ولكن لذلك
حديثا آخر ...
والمؤلف يطمح إلى إخراج هذا العمل فيلما سينمائيا ,، وقد ذكر لي أن تلك
الفكرة رافقت كتابة للنص ، فتكيف بها النص ... وبالفعل يجد القارئ نفسه
أمام " مشاهد" لاتعوزها الديكورات .وبدوري أعتقد أن اللمسة الشاعرية التي
تطبع الرواية بطابعها ، جديرة بأن تجد طريقا أفضل للتنفيذ ، اذا كان مخرجها
بذاته مؤلفا .
ناهض منير الريس - مجلة (
إلى الأمام ) 12- 10 – 1990
|