BACK       عودة


دراما ( الخريف) استمرار الحياة ..

سباعية باسل الخطيب ( الخريف) جديد الدراما التلفزيونية السورية تثير موضوع حرية الفنان في تجسيد تجربة الحياة على الشاشة، والأبعاد التي يستطيع تقديمها كمشهد بصري،وبالتالي الحرية في اختيار أسلوبه الفني . ( الخريف) يعالج موضوعاً معروفاً ومألوفاً في الحياة الاجتماعية وهو استمرار الحياة بعد تجربة مؤلمة، فقدان الزوجة الحبيبة ، وجديد ( الخريف ) في معالجته الفنية لموضوعه، فتجربة باسل الخطيب تريد أن تولد متحررة من القوالب والقيود، وإن لم يكن (الخريف) أول أعمال المخرج لكنه مسلسله الأول ، الأوضح والأنجح أسلوباً.
أعطى باسل الخطيب لنفسه هامشاً من الحرية التعبيرية كانت جديدة في تجسيد تجربة أسرية مؤلمة بآلام وأحزان فقدها للزوجة والأم وقد حقق هذا بأسلوب تعبيري واضح يستفيد كثيرا ً من اللغة السينمائية وجمالياتها .وإذ حاول باسل الخطيب إقامة علاقة أكثر حرية وحميمية ، مع المشاهد ودخل أعماقه مؤثراً ، فان جديد باسل الخطيب هو في فهمه للمشاهد وعدم اعتباره مخلوقاً من زجاج لم يعش التجربة ،أو يأتي في سلم الشريحة الأقل ثقافة في المجتمع .
المشاهد لدى باسل الخطيب هو مشاهد السينما الذي يتذوق ويتابع ، ولا يعيش في غرفة مغلقة على شاشة التلفزيون هو ربما شاهد "فيلادلفيا" الذي يعالج قضية عضال الايدز أو يحمل في نفسه رومانسية "رجل وامرأة" وربما شاهد "عطرامراة " وهو يقدم تجربة إنسانية جعلت تحديات الحياة تتغلب على لحظات الإنتحار .
( الخريف ) الذي يتوجه إلى مشاهد يقدر حواسه وثقافته ، ويريد تحقيق متابعة أكثر حميمية ، يعتمد في أسلوبه الفني الخاص كي يجسد للمشاهد أبعاد تجربة إنسانية تستحق المشاهدة .
الأسلوب في ( الخريف) هو مصداقية الحكم الفكري على التجربة الإنسانية وتجربة باسل الخطيب الفنية ، فالتعبيرية وتحرر الأسلوب من قوالب الدراما التلفزيونية هو موقف المخرج من الموضوع وهو الذي يعطي الخريف ألوانه ، ويحدد موقعه في الحياة فلا يبقى فصلاً من فصول الحياة المسالمة أو الحيادية . ولن أتوقف كثيراً عند باسل الخطيب مؤلف السيناريو، الذي يقول إن الحياة مستمرة وإنها " تقدم دوماً بدائلها" ،أو الذي يدعو إلى عدم التحجر بالقناعات والتمسك بالآراء المسبقة وإلى احترام كيان الآخر وحريته ، وهي مفاهيم ايجابية تحمل في طياتها موقفاً جريئاً من تكوين المجتمع العربي الذي تهاجمه مفاهيم متحجرة تمنع تطوره.
في (الخريف) من الأفضل أن نقرأ أسلوب المشهد البصري ، ونتوقف لدى الاسلوب الواقعي الذي يجسد فيه المخرج حياة أسرة سورية مثقفة ومنتجة ، وذا علاقة جذرية بتطور المجتمع السوري ،


وبهذا الأسلوب يقدم لنا باسل الخطيب أسرة واضحة الملامح والشخصيات وهي تمر في أهم مراحل تشكل أفكارها وقناعاتها، خصوصاً، الأبناء في مرحلة الدراسة الجامعية، ويعيش مع هذه الأسرة في كامل ظروفها أزمة الاستمرار في الحياة بعد فقدانها أهم أفرادها الأم و الزوجة . وإن كان الأسلوب الواقعي ل( الخريف) يتداخل مع تعبيرية واضحة تكاد تسيطر على أبعاد المشهد الواقعي ، فهذا لأن باسل الخطيب يجد فيه تجربة إنسانية لها أبعادها الفكرية وتظاهراتها النفسية ، هي تحول في النفس ونضج في المفاهيم وتغير في القناعات المتحجرة ، وتطور الشخصيات وهي قبل هذا تجربة لها آلامها وسعادتها .لهذا فان حركة ( الخريف ) ليست دوماً تلك الحركة الخارجية اللاهثة ، ولا تقتصر تعبيريتها دائما ً على الحوار والأحداث المتوالية ، فالسلوك وتفاعل الإنسان مع واقع الحياة والمجتمع هو عالم ( الخريف) يرسمه باسل الخطيب تعبيريا بتوظيف القدرة التعبيرية الداخلية والواقعية الخارجية لكل عناصره الفنية . وإن كانت التعبيرية أسلوبا سينمائياً، كما يوصف ويصنف البعض ، فان باسل الخطيب يريد فعلاً أن يتداخل مع عالم السينما ، وخصوصاً أنه أكثر تعبيراً وجمالاً . باسل الخطيب يعتمد فعلاً على دراسته وثقافته السينمائية ،وكأغلب ويوظفها في الدراما التلفزيونية .فلا غريب اذاً لو قدم جديده في مشهده البصري، وأسلوبه الفني وهو يحاول تقديم مشهد يحمل بصماته ،وأسلوب تميز بتعبيرية واضحة استطاعت أن تجعل من عالم التجربة الفكرية والنفسية ، وعالم التجربة الواقعية عالماً واحداً أوسع وأعمق . وإن كان يجب قراءة (الخريف) تعبيرياً، فإننا نستطيع قراءة هذا الأسلوب في عناصر العمل كلها . فنحن نقرأ المشهد البصري من خلال كاميرا جورج الخوري التي تميزت بتعبيرية فائقة استطاعت أن تعبر عن العالم الداخلي للتجربة الإنسانية وان تصور أبعاد بيئتها الواقعية المناسبة . كما استطاع ممثل (الخريف) تجسيد النموذج الإجتماعي والتجربة التي يعيشها وبحيث يتجاوز العالم الداخلي للشخصيات عالمها الواقعي. وإن كان الجيل الشاب في المسلسل يقدم حالة اجتماعية نقدية ، ترسم العلاقة بين جيل الآباء والأبناء، وتدين بتجربتها عدم احترام الآخر، أو التمسك بالقناعات المتحجرة، فقد استطاعت أمل عرفة،وعابد فهد، وجلال شموط ،تجسيد هذا الجيل ومفاهيمه بتعبيرية واضحة بعيدة عن الكاريكاتيرية. سلوم حداد الذي أخذ على عاتقه تجسيد الجزء الأساسي من التجربة الإنسانية ، قدم جديداً من أدواره وإضاءة أوضح لأبعاد ملامحه الحقيقية واستطاع أن يخدم العمل بتوظيف قدرته في التعبير عن ملامح النفس الداخلية وأن يعيش ظروفها الواقعية . كما جاء وجه صباح جزائري جديداً ومختلفاً كشف التجربة التعبيرية ويغذيها بقدرات إضافية ، دون أن ننسى رصيدها الكبير والمتنوع الذي نعرفه . كما تألقت مرح جبر في تقديم شخصية مقنعة في إصرارها على حب الحياة واستمرارها . وإن كنا نتحدث عن التعبيرية في ( الخريف) فقد كانت الموسيقى بطلة مقنعة في تعبيريتها ، فالموسيقى التي ألفها فاهية ديمرجيان كانت بطلة تحبها الأذن ، وتتفاعل معها المشاعر ،وتلقى صداها في النفس ، بطلة في تصويرها للتجربة الإنسانية ،وللعالم الداخلي والخارجي للشخصيات، وقد استطاعت الموسيقى ان تكون لغة الحوار المسموعة في مساحات الصمت والتأمل والمعاناة ، هذه المساحات التي أنضجت التجربة الإنسانية وطورت مواقفها وشخصياتها .

لقد أعطى باسل الخطيب لنفسه هامشاً من الحرية في تقديم التجربة الإنسانية على الشاشة الصغيرة .لن ندعي أنه يخرق الحدود المسموحة في مشهده البصري لكنه يحاول تجسيد ماهو مقبول أو مسموح به ، باسل الخطيب يرى فيما قدمه أن مصداقية العمل الدرامي لاتتحق إلا من خلال مشهد خاص يتميز بتعبيريته، وفي ( الخريف) لايستطيع أن يكون مفهوماً أو مقنعاً وهو يدعو إلى استمرار الحياةدون تجسيد بعض أبعاد التجربة القاسية التي كادت توقف مسيرتها . القضية التي نطرحها من خلال تحليلنا لهذا المسلسل هي مدى علاقة الأسلوب الفني بالثقافة الحقيقية التي يقدمها العمل الدرامي للمشاهد فهل يستخدم المخرج عناصره مجاناً، أم أن هذه العناصر البصرية والسمعية التي ترتفع بالمشهد أو تسقط به هي في النهاية المؤثر الحقيقي في ثقافة المشاهد، وهي التي تترسب في الذاكرة وتهذب الحواس والمشاعر . إنها ليست قضية (الخريف ) فقط ، فالحرية التعبيرية للفنان وضرورة وجود هامش تجريبي في الدراما التلفزيونية المحلية ، قد تشكل حماية تحول دون سقوط هذه الدراما في فخ القوالب الجاهزة ، فما تزال أهمية الدراما المحلية في خصوصية جديدها في تجريبيتها وحريتها التعبيرية وفي تحررها من قوالب الدراما ذات التوصيف التجاري فقط . إن الدراما التلفزيونية جنس أدبي وفني جديد ،لم يكتب النقد كثيراً في توصيفه وتصنيفه ، لذا فان التجربة المستمرة والعلاقة مع المشاهد وهي التي تقوم بدور التوصيف والتطوير ، تطرح دائماً أسئلة ، ربما قدمت السينما إجاباتها ، ومن هذه الأسئلة : هل تجسد الدراما التلفزيونية تجربة الحياة على الشاشة ، وماهي المقادير والجرعات البصرية المسموح بتقديمها لعين المشاهد وماهي المشاعر المقبول الغوص إليها في أعماقه؟ إن ذريعة علاقة هذه الدراما بالأسرة وأسلوب المشاهد الجماعية المنزلية يجعل التجريبية غير مجندة ويجعل هامش حرية الفنان أضيق ، وبرغم أن التمسك بالقوالب الجاهزة لفن الدراما التلفزيوني كان مبرراً لتقديم الإنتاج الهابط. إذاً كيف نستقبل عملاً جديداً وبأي توصيف وتصنيف في النقد.هل نزعم بوجودقوالب تقليدية، أم ننطلق في خصوصية التجربة،ونعطي الفنان هامشاً من الحرية يقدم فيه مصداقية أسلوبه . إن كانت الدراما التلفزيونية السورية ،وهي تظاهرة جديدة في عالم الإنتاج العربي ،لم تنشأ على القوالب والمطالب التجارية ، فتلك خصوصية حبذا لونتابعها ، وهي تقدم جديدها خصوصاً وقد أصبح لدينا أسماء مهمة أضافت إلى فن الدراما التلفزيونية كجنس فني ، وسنبقى نستقبل التجارب والأسماء الجديدة بالحوار والتحليل .

نهلة كامل ( مجلة فن 1994 )