BACK       عودة


مسلسل ( نزار قباني )
صورة الجمال الدمشقي مكاناً وزماناً

قطرات المطر تنقر الشبابيك العتيقة كعصافير صغيرة تبحث عن الدفء، يرتعش الخشب العتيق تحت وطأة المطر كما ترتعش الأغصان الخضراء في باحة الدار ..لكن النور يغمر المكان، فتنكشف تلك العلاقة الحميمة مع الطبيعة .. والمكان هو منزل دمشقي – والمشهد- من المسلسل التلفزيوني ( نزار قباني ) إخراج باسل الخطيب . تلك العلاقة المميزة أعرفها جيداً، وأتساءل كيف اكتشف باسل الخطيب تلك الصورة، فهي تنام دائماً وأبداً في مخيلتي أنا .. والتي ولدت في بيت دمشقي يشبه كثيراً بيت شاعرنا الكبير . أمران في مسلسل نزار قباني ومن إخراج باسل الخطيب المميز ، أمران حملاني عل متابعته بتأثر عميق فعناصر الجمال الرائعة لم تتوقف عند شكل الكادر أو اللقطة لكنها راحت عميقاً نحو الوجدان الخفي برهافة عالية .

دمشق أولاً ، والمسرح ثانياً. فدمشق القديمة التي أعاد اكتشافها مخرج العمل قد نظر إليها لا بعين السائح العابر، بل بعلاقة الجمال بقاطن المكان . طبعاً هناك سمات روحية خاصة في هذه المنازل الجميلة في ذلك الزمن الجميل .الإضاءة الغريبة في تلك المنازل لا يعرفها إلا من ولد ونشأ فيها. تلك الإضاءة التي تتراوح بين النور المبهر شبه الإلهي الغامر بالفرح والحياة ، إلى تلك الإضاءة شبه المعتمة في اللحظات التي تسبق هبوط الليل، إنها لحظات أقرب إلى لحظات الموت، رصدها المخرج بدقة في مشهد عن والدة الشاعر بعد موتها- كانت تجلس قرب البحرة والحمام ساكن بين يديها – في تلك الإضاءة الغريبة وفي واقع الأمر، في هذه اللحظة بالذات تسكن الطيور ثم تنام . أما الأسماك الصغيرة الملونة التي كانت تفر هاربة عندما تغطس في الماء أو أي شئ آخر ..أعادتني إلى بحرة صغيرة لدى جيراننا كانت تلعب فيها الأسماك الملونة بحرية وفرح .. وحين كنا نحن الأشقياء الصغار نحاول الاقتراب منها أو الإمساك بها ولو بورقة خضراء كانت تفر مذعورة وتترك مكانها فارغاً لنا . كانت لعبة ممتعة ..نعم كان هذا البيت الدمشقي وكما قال نزار قباني كان مملكة الأطفال وعزلته عن الخارج ، كانت تمنح سكان المنزل الحد الأقصى من الحرية في التعبير عن مشاعرهم من حب وحنان ومودة، وجمال المكان كان يمنح قاطني المنزل جمال الروح والمشاعر .

لقد برع المخرج باسل الخطيب في الوصول إلى روح المنزل الدمشقي القديم وقاطنيه إلى درجة وفي لحظة ما خيل إليّ أن والدة الشاعر هي والدتي ،وان والده هو والدي ..وطبعاً عزز هذا الإحساس والأداء الرائع لأستاذنا الكبير أسعد فضة والممثلة الرائعة صباح الجزائري .. صفاء المكان منح صفاء للمشاعر ووضوحاً للأفكار الخيرة طبعاً – يمكن لإنسان أن يكون شريراً وكل عناصر الحب والجمال – جمال الإنسان وجمال الطبيعة تحيط به .. كان المسلسل مثقلاً بالحنين ، وإذا كانت دموعي تنهمر ليس حزناً بل تأثراً بهذا الجمال الذي تسرب من بين أيدينا فوجدنا أنفسنا في أر ض قاحلة جافة.

أيقظ العمل إحساساً لدي بأنني "بني آدم" وأنني لست من ذرية الفضائيات والانترنت بل من مدينة مقدسة هي دمشق- يرفرف روح الله في كل جزء منها – لا فلاسفة العولمة . الأمر الآخر هو المسرح، في الحقيقة أن السيناريو الذي أنجزه المخرج هو سيناريو متواضع، إذا استثنينا قصائد الشاعر الكبير نزار قباني .
لقد عمل المخرج على أكثر من مستوى كي يرفع القيمة الدرامية للسيناريو. في النثر حاول المخرج أن يشحن كل حوار بسيط بالصراع والأحاسيس، وهذه العناصر هي عناصر مسرحية بامتياز. أما الشعر وهو الامتحان الأكبر، نستطيع القول رن باسل الخطيب كان على مستوى أحلام نزار قباني، لقد عمل على قصائد الشعر درامياً أيضاَ ووظف جماليات الصور كما يجب أن يقدم شعر نزار .

في هذا المسلسل رأينا باسل الخطيب مخرجاً سينمائياً وظف طاقات المسرح لتقديم عمل شديد التميز طبعاً لا ننسى الأداء المميز لسلوم حداد وتيم حسن بكل جاذبيته ووسامته وتألقه.

وأخيراً ومع الاحترام الشديد لحقوق ملكية الورثة الشرعيين للشاعر نزار قباني المادية والمعنوية نبقى نحن المواطنين البسطاء العاديين ورثته اللذين لا يعترف بهم القانون ، لكنه كتب من أجلنا ومن أجل هذه الأمة التي كانت همومها تقلقه .. من أجل دمشق الذي آلمه حبه وشوقه إليها الذي كان يزداد كل يوم حنيناً على حنين حتى اللحظة الأخيرة التي ارتاح في ثراها . يكفي دمشق فخراً أن نذكرها ونذكر نزار قباني ، ويكفيه حباً أنه لا يمكن ذكره دون أن نذكر دمشق. نزار قباني ودمشق مثله كمثل لوركا وغرناطة اللتان تلاحما سوياً ودخلا ذاكرة التاريخ والمستقبل ولم يعد أحد يستطيع الفصل بينهما .. وفي النهاية : شكراً باسل الخطيب، المخرج الساحر، كما وصفه بعض الصحفيين ذات مرة ، والشاعر الذي ملأ الأيام الثلاثين من شهر رمضان، ملأها حنيناً وحباً وشعراً ومازالت الآثار محفورة عميقاً في الوجدان .. شكراً باسل الخطيب .

سحر مرقدة ( جريدة الثورة 23- 11 – 2005 )