BACK       عودة


( نزار قباني ) دراما تلفزيونية بجماليات سينمائية..

تقودك معظم المسلسلات العربية دائماً للحديث عن "موضوعها"وليس مضمونها، أما الشكل فنادراً مايدفعك للتأمل أو التحليل لأننا اعتدنا في الدراما التلفزيونية خاصة المصرية منها على بساطة الأسلوب سواء على مستوى السرد الدرامي، أو التصوير والمونتاج والموسيقى ، فيكفي أن تلاحظ أن هذا المخرج يفرط في استخدام عدسة "الزوم"للاقتراب أو الابتعاد عن موضوع اللقطة، أو أن "أغنيه"المقدمة في بداية هذه الحلقات أو تلك تثير الشجون. مسلسل ( نزارقباني ) يأتي مختلفاً تماماً، حين تكتشف منذ اللحظة الأولى أن مخرجه باسل الخطيب يصنع الدراما التلفزيونية بجماليات "سينمائية" بالمعنى الأرقى للكلمة، فعينه الواعية دائماً تختار جماليات بعينها ، البصرية منها والسمعية، لذالك فهو يطلب منا الانتباه مع كل لحظة لكي نستمتع بجمال أو بالأحرى "جماليات" الشكل، ولن يخيب ظننا أبدا إن منحنا أعماله الإنتباه الذي تستحق لنحصل على الكثير من المتعة الفنية .

سوف نكتشف هذه الجماليات منذ اللحظة الأولى لأن شارة البداية والنهاية تحتوي على العديد من اللقطات التي تؤكد أن باسل الخطيب يتمتع بأسلوب بصري وسمعي راقي ، لكن أرجو أن نتوقف قليلاً مع اللقطتين الأولى والأخيرة في هذه الشارة فهما اللقطة نفسها ، لكن المخرج يستخدمها مرتين ليعطيها في كل مرة معنى مختلفاً، ففي البدء نرى "نزار" العجوز يقف مستنداً إلى عصا ويمد يده ليرحب باقتراب "نزار" الشاب حتى يتصافحا، وفي الختام يعرض المخرج هذه اللقطة ذاتها على نحو عكسي مع إبطاء الحركة قليلاً، في سرعة يفضل المخرج استخدامها كثيراً،فيبدو كأن "نزار" الشاب يتراجع إلى الوراء ليمضي في حال سبيله ، تاركاً "نزار" العجوز واقفاً وهو يمد يده، كأنه يطلب من الشاب أن يكون له سنداً ،ولكن بلا جدوى .
إن هذين المعنيين الشعريين يتحققان باللغة السينمائية وحدها، ويلخصان رحلة "نزار" الشاعر والإنسان، الذي تبدأ الحكاية به وهو عجوز، يقف على ضفة نهر التايمز في لندن عام 1998 ويقوم بدوره في تلك المرحلة سلوم حداد ، إنه يتأمل جريان الماء في النهر وكأنه يتأمل نهر حياته ذاته، ويعتمد المخرج إلى تصوير هذه اللقطات عكس الضوء، حتى أنها تصبح أقرب إلى الصورة الظلية أو "السيلويت"، لتبدو اقرب إلى غروب الحياة، ومن الماء الذي يجري نرى المونتاج بأسلوب "المزج" إلى المشهد التالي الذي يصور لحظة ميلاد نزار عام 1923، ومرة أخرى أرجو أن نتأمل الأسلوب السينمائي الذي تحقق به المشهد: نسمع صرخات الأم (تقوم بدورها صباح الجزائري) التي لا نراها على الشاشة بينما ترتفع يدها في اللقطة وتمسك أعمدة السرير في ارتعاش، ليقطع إلى الأب (أسعد فضة) القلق في باحة المنزل، لتنفرج أساريره عندما يسمع صراخ الوليد ،ونعود إلى يد الأم تتراخى وقد توقفت عن الصراخ، لترتفع يداها مرة أخرى،تحملان الطفل الذي يتنفس مع صراخه لأول مرة نسيم الحياة.

إنها بلا شك بلاغة بصرية وسمعية يدهشنا أن نراها في دراما تلفزيونية عربية ، بلاغة تذكر بسينما أوروبا الشرقية في أيام ذروة نضجها السينمائي خلال الستينات والسبعينات، عندما كانت تولد فيها جماليات جديدة للسينما تبنتها صناعات السينما في العالم كله في السنوات التالية، بينما آل معظمها إلى هوليوود تتلاعب وتتاجر بها كأنها من بنات أفكاره،إن البلاغة تسري في أوصال كل حلقات مسلسل ( نزار قباني) ،لذلك سوف نكتفي هنا أن نضرب لها بضعة أمثلة قد تدعو القارئ

والمتفرج إلى أن يشاهد هذه الدراما التلفزيونية على نحو لم يعتده في مسلسلات التلفزيون ، فمع لحظة ميلاد الطفل نزار، يلقي الأب من فرحته بالمظلة بعيداً ويقف سعيداً تحت المطر، ويمد يده بنفحة إلى "الدّاية" التي أشرفت على ولادة زوجته، وتتابع لقطات في مونتاج شاعري رقيق مع إبطاء حركة عرض اللقطات قليلاً لتعبر عن مرور بضع سنوات، فبين لقطات الحمائم التي تستحم في مياه النافورة، ومقعد الأب في الباحة وفوقه النظارة وإلى جواره النارجيلة، وبين لقطات مدافع تطلق قذائفها ، سوف تعلم أن سوريا تعيش بدورها لحظات المخاض خلال العشرينات طلباً للاستقلال عن الاستعمار الفرنسي .

يقول نزار عن نفسه في بداية الحلقات إنه ولد في شهر آذار "شهر التغير والتحولات" أو فلنقل إنه عاش في قرن التغير والتحولات العاصفة، لكن لان نزار قباني "علامة مسجلة " يعرفها كل قرائه من المعجبين أو المعترضين على السواء عندما اقترن شعره في الأغلب بالحب والنساء، وأحياناً ببعض المواقف السياسية شديدة الجموح والمرارة، فإن المسلسل الذي يعتمد على المادة الأدبية للدكتورة يولا البهنسي، وسيناريو قمر الزمان علوش، سوف يحكي كثيراً عن تفتح مشاعر نزار في كل مراحل حياته تجاه هذين العالمين ، عالم الحب والنساء، وعالم السياسة، وإن كان العالم الأول سوف يحتفظ بالطبع بنصيب الأسد، وفي الحلقات الثلاث الأولى سوف يفسر المسلسل كيف يتداخل العالمان في وعي نزار ، فعندما ينتقل إلى عام 1922، سوف يكون نزار قد بلغ العاشرة من عمره (يقوم بدوره في هذه المرحلة مجيد الخطيب)، لنرى علاقته الوثيقة مع شقيقته الكبرى التي ترعاه ،وقصة تبدو خيالاً فنياً أكثر منها واقعاً حقيقياً حول جارة شابة عرف معها بعض المشاعر الدافئة ، حينما كانت تلاقيه وهو ذاهب لشراء الخبز ، فتدخل معه تحت المظلة لتتقي المطر، وتودعه بقبلة حنون ، وتسأله أن يمنحها بعض السكاكر من معمل أبيه إذا التقاها مرة أخرى ، إن هذه الفتاة تبدو متمردة على تقاليد زمنها ، تخرج في مظاهرات المقاومة وترفض تزويجها ممن لا تحب وعندما تقبض عليها قوات الاحتلال، يصمم أبوها على أن تتزوج قسراً جزاراً كان الطفل نزار رآه في فزع يذبح خروفاً أمام باب المنزل ، وفي حفل الزفاف سوف يذهب نزار مع أسرته ، ليرى الفتاة العروس وهي تبكي لكنها تبتسم له وحده ، فيقترب منها ويضع في يدها بعض الحلوى لكنها تنظر إليه كأنها تطلب منه العون ، فهي في الحقيقة مساقة للذبح .

هذه التجارب سوف تتراكم في وعي نزار ،حتى تكتمل المأساة فصولاً بانتحار شقيقته الكبرى المقربة إلى قلبه ، عندما ضرب أشقياء الحارة فتى يحبها لمجرد أنه يقف أمام باب المنزل ، في مرحلة كان فيها الفتى نزار أدركه "شيطان الشعر" وتعلم كيف يستخرج الشعر من الألم ، وعندما تنتقل الأحداث إلى عام 1943، يكون نزار قد بلغ العشرين (يقوم بدوره في هذه المرحلة تيم حسن) ،ومن قصائد الحب التي يغزلها كانت الفتيات تصنع منشورات سرية ، في تناقض مع الرجال المشدودين إلى الماضي عندما نراهم جالسين في المقاهي يستمعون إلى الحكواتي، وفي هذه المرحلة سوف يتوقف المسلسل طويلاً على الرغم من دخول العديد من الشخصيات إلى حياة نزار ، وانتقاله من دمشق إلى القاهرة ثم إلى تركيا ليعود إلى سوريا مرة أخرى، في فترة شهدت أخطرالتحولات السياسية في عالمنا العربي بل العالم كله .

وهكذا تتعدد حكايات نزار مع عالم المرأة ، التي تتجسد في ألوان مختلفة من النساء ، لا فرق في ذلك بين طالبات المدارس اللاتي يتداولن شعره سراً و المعلمة التي تنهرهن عن قراءة هذا الشعر لكنها معجبة به في أعماقها ،ولا فرق بين امرأة وابنتها تقعان في غرامه في وقت واحد، أوبين السيدة الارستقراطية والخادمة البسيطة الساذجة، ومن السهل على صناع المسلسل أن يجدوا مسوغاً لاقتران شعر نزار بالمرأة ، فإذا كانت تجارب طفولته وصباه تركت في نفسه ندوباً لا تمحى ،تدور جميعها حول قمع المرأة ، الذي يؤدي دائماً إلى ذبحها بالمعنى المجازي أو حتى الحقيقي للكلمة ، فان نزار شاب سوف يقدم "دفاعاَ" عن وجهة نظره من خلال الحوار فهو يدعو إلى أن "نفكر بصوت مسموع ،ونقول في العلن ،ما نقوله في السر"، وأنه لا فرق بين التحرر من الاستعمار والعبودية ،فالحرية والاستقلال هما ساقا الحياة ، أو كما يقول بالسيناريو: "مأزقنا التاريخي مع الحرية وليس مع الاستقلال " ، وأنه إذا كانت هناك أسئلة جوهرية يجب أن تطرح فإن الحرية والحب هما جواب كل الأسئلة.

لكن هذا المسوغ لا يكفي إن نظرنا إلى الأمر من جانبه الدرامي والإنساني، فهو لا يشكل الدافع الذي يقنعنا لوقوع نزار في الحب مرة بعد أخرى ،أو عدة مرات في وقت واحد ، وربما كان المسلسل يعاني من "القمع" الذي يمنعه من الدخول إلى منطقة شائكة ،لعله قمع القريبين في الواقع من نزار نفسه ، أو الخوف من ردود الأفعال التي سوف تميل بسهولة إلى الاتهام بالدعوة إلى التحلل من الأعراف والتقاليد ،أو لعل المسلسل وضع على لسان الأب توفيق القباني، صاحب معمل الحلوى، السبب في عدم اقتحام المناطق "المحرمة " عندما حكى للشاب نزار ناصحاً إياه "بالفن والروية" عن تجربة الجد أبي خليل القباني الذي حرقوا مسرحه عندما زاد من جرعة الحرية!موسيقا رضوان نصري في استخدامها للآلات المنفردة أو الاوركسترا أو الصوت البشري ، والتصوير بإدارة وليد كمال الدين،والديكور لحسان أبو عياش، والإضاءة لجمال مطر والملابس لرجاء مخلوف، فمنها جميعها تحققت لوحات تشكيلية تعرف جيداً أهمية زاوية التصوير أو مصدر الإضاءة أو تشكيل كادرمن خلال الكتل المتوازية أو المتواترة بين الممثلين والديكور ،حتى أن بعض اللقطات تذكر بلوحات رامبرانت عندما يذوب الفرق بين الضوء والظلام في مشاهد السرداب الذي دخله نزار الشاب ليحرر المرأة التي يستخدمها الدجال سلعة يتاجر بها ، وتذكر لقطات أخرى بلوحات سلفادور دالي ،مثل مشهد حلم نزار الطفل بالحصان والصحراء والأشجار المتناثرة المصفوفة العارية ، ويمنح الظل معنى رمزياً عندما يقف نزار الشاب تحت مظلة خشبية في حديقة فيبدو أسيراً في شبكة من الظلال ، كما أن مونتاج جهاد خضور يعرف معنى علامات الترقيم في الفرق بين القطع والمزج والاختفاء والظهور التدريجيين، ليصنع من دراما المسلسل وحدات متعاقبة أو متداخلة ، لكن كل ذلك يأتي بفضل المخرج باسل الخطيب ، الذي قاد فريق العمل بوعي جمالي يتجاوز أغلب ما تعرفنا إليه في الدراما التلفزيونية ،ونرجو أن تتحقق له الفرصة يوماً لصنع عمل سينمائي ،فعندها سوف نكتب السينما العربية مخرجاً فناناً حقيقياً اسمه باسل الخطيب.

أحمد يوسف