BACK       عودة


نزار قباني في مسلسل مميز لباسل الخطيب

حياة حافلة بالشعر والمرأة والترحال

سيرة حياة الشاعر نزار قباني التي تبثها قناة دبي الفضائية في مسلسل سوري حمل توقيع المخرج باسل الخطيب من أجمل ما تعرضه الشاشات المحلية والفضائية ضمن سلسلة برامج شهر رمضان لهذا العام، وجمالية المسلسل تصل من منابع عدة، أولها أنها تستقي من حياة الشاعر قباني المليئة بالمفاجآت والتقلبات والأسفار، حيث يضج المسلسل بتنوع الأمكنة والمناخات، من الشام إلى القاهرة ، إلى بيروت ولندن واسطنبول ومدريد ..

ومن عمله في السلك الديبلوماسي بعد دراسة الحقوق إلى بداية نشر قصائده ،إلى شهرة واسعة أوصلته إلى كل بيت ومدرسة وحقيبة فتاة مراهقة مع انطلاقة ديوانه الأول " قالت لي السمراء" وأخيراً إلى منابر رسمية ومراكز رفيعة بعد ما تخطى مرحلة النقد التي كادت تجعله يتخلى عن الشعر، ففضل تغيير الأمكنة وجاء إلى بيروت التي اعتبرها منبر الحرية في الستينات والسبعينات ،حيث سطع نجمه في سمائها الثقافية.

كما يتجلى جمال المسلسل من الرؤية الإخراجية المغايرة التي اعتمدها المخرج باسل الخطيب وجعل المسلسل متعة للعين قلما نجد مثلها في أعمالنا الدرامية العربية ،إن في سوريا أو لبنان أو غيرهما ، كاميرا باسل الخطيب تطوف الأمكنة في طفولة قباني في المنزل العائلي الحميم جداً حيث الوالد والوالدة من عائلة عريقة ومحترمة تنشغل في تربية الأبناء والبنات، برقة متناهية وعاطفية دلت نزار كما باقي الأخوة إلى درب السعادة والنجاح ، ماعدا الأخت الكبرى "وصال" التي كانت شعلة الحنان الأنثوي الأولى في حياة نزار الصغير، ووصال كما تبدو في المسلسل صورة طبق الأصل عن نزار في إحساسه ومشاعره وشغفه الكبير بالمشاعر الإنسانية، وتماماً كما أحب نزار فيما بعد بقوة وكتب عن الحب والمرأة بقوة، كذلك فعلت وصال في سن المراهقة حين أغرمت بشاب لم تتمكن من الاستمرار معه، ولم تحتمل الفراق فوضعت حداً لحياتها، ويبدو أن هذه الحادثة تركت أثراً عميقاً وجرحاً بقي مفتوحاً في قلب نزار الطفل ،والشاب والعجوز فيما بعد، لم يتمكن من نسيانها، وتشير أحداث المسلسل إلى طول السنوات التي بقي فيها يزور قبرها، ويزينه بالورود ، ويشير إلى الحزن الذي لف العائلة وأوقعها في سوداوية قاتلة بعد الفرح العارم في بدايات المسلسل، كما يشير إلى تأثير هذه الحادثة على مضمون شعر نزار الذي اعترف في بداية شعره بأنه يكتب شعر الحب ويكتب عن المرأة من فرط سحر وقوة تلك القصة العاطفية الخارقة التي جعلت فتاة مراهقة تموت من اجل الحب، أراد ن يفهم "وصال" ليفهم من خلالها كل نساء العالم، أراد أن ينصفها لينصف من خلالها كل عاشقات العالم، وليفهم الحب أكثر، وليفهم عمق المشاعر الإنسانية أكثر، ويظهر المخرج باسل الخطيب هذا التأثير في إشارات ورموز ومشاهد خافتة وغاية في الجمالية، كيف أن وصال تستمر في المسلسل على الرغم من رحيلها المبكر في الصورة الفوتوغرافية، في أشيائها وفي أحلام نزار ..


ويتناوب على دور نزار الطفل مجيد الخطيب الذي أداره المخرج بشكل مميز من حيث حاول إظهار غرائبية شخصية عبر تصرفات صبيانية تحمل تأويلات كثيرة ، الطفل نزار أو الممثل الصغير مجيد الخطيب تحدث بعينيه الزرقاوين أكثر مما حمله الكلام ، وكأنه يخزن الصور والذكريات والمشاهد لزمن آخر، لزمن لاحق ،أما مرحلة شباب نزار مع الممثل تيم حسن ، فهي جيدة أولاً في إطار المحاولة التي سعى إليها الحسن، شخصية الشاعر والجذاب الذي سحر بشعره وأيضاَ بشكله نساء العالم العربي ، فلم تكن المهمة صعبة كفاية على مايبدو لان الشبه واضح بين الاثنين ، ويتمتع الحسن أيضاً بوجود جذاب عرف كيف يستخدم من خلال التشبه والإيحاء بالشخصية ،وستشهد الحلقات القادمة دخول الممثل سلوم حداد في دور نزار الستيني ،والسبعيني.

وضعت الدكتورة يولا بهنسي قصة المسلسل وكتبه استناداً إلى مراجع عديدة راعت مشاعر عائلة الشاعر وتنبهت إلى قضايا اجتماعية وسياسية عديدة قد توقع المسلسل في المشاكل،خاصة لأنها تعالج قضية شعر نزار الذي عرف بالجرأة ،والتفلت والتحرر إلى حد الإباحية وبالتالي عانى من الإعتراض والمنع وصولاً إلى التهديد بالتصفية الجسدية و يشير المسلسل إلى بعض هذه المحاولات في الموضوع الأخير .

وهنا ومن دون شك ، السيناريو جيد في أمكنة وبارد في أمكنة أخرى حيث التحرر الذي عاشه قباني وعشق النساء له وتعدد علاقاته الغرامية من الأمور المشار إليها بخفر ولم تعالج العمق، حتى أن علاقته بأول سيدة أحبها وكانت مطلقة وتكبره بأعوام كثيرة لم يصل المشاهد منها أكثر من إيحاءات العلاقة ومن بعدها القطيعة ثم العودة إليها مجدداً، ومن دون شك أنه ثمة تنازلات كثيرة حدثت ليبقى المسلسل مقبولاً في كل القنوات العربية المحلية والفضائية، كانت لتحتمل مسيرة حياة نزار قباني القليل من الجنون والتفلت والتحرر والثورة والعصيان ، كانت الأمور والأحداث تجري في المسلسل بهدوء ورصانة جيدة ، مع أن وحدها بعض الحركات والتحركات لشخصية نزار توحي بالأمر :نبرته مشيته ، أناقته ، السيجارة التي لا تفارق فمه ، كلها ترمز إلى شخصية تغرد خارج السرب وعلى المشاهد أن يتخيل الأمور الأخرى.

من ناحية أخرى يؤدي كل من أسعد فضة وصباح الجزائري دوري الأب والأم بأسلوب جميل وإحساس مرهف لكن مع تضخيم لوجودهما على الشاشة حين يفتقر المشاهد إلى اقل التفاصيل التي تتعلق بالشقيق الآخر لنزار، وبشقيقته التي بقيت على قيد الحياة، حتى أن وصال التي ماتت شهيدة الحب ذهبت سريعاً وتمنينا لو تعمق المسلسل أكثر في وجهها وشخصيتها عمقاً قوياً يتصل مباشرة بنزار، فأطلت بوجهها الساحر وغالبت في مشهدية موت مقنعة من دون أن نسمعها أو نفهمها كثيراً.

ومن بين جماليات المسلسل أيضاً ديكوراته التي صممها حسان أبوعياش خاصة في المنزل الدمشقي الجميل وفي إطار الشارع الذي سكنه في القاهرة ، فثمة ذوق رفيع المستوى في تقديم الأمكنة والمحافظة على شاعريتها ،وهي من الأمور التي صارت مألوفة في أعمال سابقة للمخرج باسل الخطيب .

كوليت مرشليان ( جريدة المستقبل 13- 10 – 2005 )